قيل لبعض الصالحين : ما بال المجتهدين من أحسن الناس خلقا؟ قال : لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره. ه نعم ، إن صحب المعصية توبة وانكسار ، وصحب الطاعة عز واستكبار ، انقلبت حقيقتهما ، فقد تقرب المعصية وتبعد الطاعة. وفى الحكم : «معصية أورثت ذلا وافتقارا خير من طاعة أورثت عزا واستكبار ، وقال أيضا : «وربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول».
ثم ذكر موطن وعد المحسنين ووعيد المسيئين ، فقال :
(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))
قلت : (مكانكم) : مفعول ، أي : الزموا مكانكم ، و (أنتم) تأكيد للضمير المنتقل إليه ، و (شركاؤكم) عطف عليه.
يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) يعنى فريق الحسنى ، وفريق النار ، (ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا) : الزموا (مَكانَكُمْ) من الخزي والهوان ، حتى تنظروا ما يفعل بكم ، (أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ) معكم ، تمثل حينئذ معهم ، (فَزَيَّلْنا) : فرّقنا (بَيْنَهُمْ) وقطعنا الوصل التي كانت بينهم ، (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ) ، ينطقها الله تعالى تكذيبا لهم فتقول : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) ، وإنما عبدتم فى الحقيقة أهواءكم ؛ لأنها الأمارة لكم بالإشراك. وقيل المراد بالشركاء : الملائكة والمسيح.
(فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) ، فإنه العالم بحقيقة الحال ، (إِنْ كُنَّا) أي : إنه الأمر والشأن كنا (عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) ، لم نأمركم بها ولم نرضها. قال ابن عطية : وظاهر هذه الآية أن محاورتهم إنما هى مع الأصنام دون الملائكة وعيسى ، بدليل القول لهم : (مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ). ودون فرعون ، ومن عبد من الجن ، بدليل قوله : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) ، وهؤلاء لم يغفلوا قط عن عبادة من عبدهم. ه.
(هُنالِكَ تَبْلُوا) : فى ذلك المقام تبلوا (كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) أي : تختبر ما قدمت من الأعمال خيرا أو شرا ؛ فتعاين نفعه وضرره ، وقرأ الأخوان : «تتلوا» من التلاوة ، أي : تقرأه فى صحائف أعمالها ، أو من التلو ، أي : تتبع عملها فتقودها إلى الجنة أو إلى النار. والمعنى : تفعل بها فعل المختبر لحالها المعرّف لسعادتها وشقاوتها ،