والمراد بالخصوصية : تحقيق مقام الفناء ، ودخول بلاد المعاني. فكل من لم يحصل مقام الفناء ، ولم يشهد إلا المحسوسات فهو من العوام ، ولو بلغ من العلم والعمل ما بلغ ، ولو رأى من الكرامات أمثال الجبال. فمن صحب مثل هذا الذي لم يفن عن نفسه ، ولم يخرج عن دائرة حسه ، لم يخرج من العمومية ؛ لأن نفسه فرعونية. قال تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) ، وفى الخبر : «المرء على دين خليله» وقال الشاعر :
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه |
|
فكلّ قرين بالمقارن يقتدى (١) |
والله تعالى أعلم.
ثم وعظ نبيه بما جرى على الأمم المتقدمة آنفا ، فقال :
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤))
قلت : (ذلك) : مبتدأ. و (من أنباء) : خبر ، و (نقصه) : خبر ثان. وجملة : (منها قائم وحصيد) : استئنافية لا حالية ؛ لعدم الرابط.
يقول الحق جل جلاله : (ذلِكَ) النبأ الذي أخبرناك به فى هذه السورة ، هو (مِنْ أَنْباءِ الْقُرى) الماضية المهلكة ، (نَقُصُّهُ عَلَيْكَ) ، ونخبرك به ؛ تهديدا لأمتك وتسلية لك. (مِنْها) ما هو (قائِمٌ) البناء باقى الأثر ، (وَ) منها (حَصِيدٌ) أي : محصود عافى الأثر ، كالزرع المحصود. أو : منها ما هو ساكن بقوم آخرين ، قائم العمارة بغير من هلك ، ومنها ما هو دارس على أثره ، واندرست أطلاله.
قال تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ) بإهلاكنا إياهم ، (وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بأن عرضوها له ؛ بارتكابهم ما يوجب هلاكهم ، فعبدوا معى غيرى ، (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ) : ما نفعتهم ، ولا قدرت أن تدفع عنهم العذاب ، (آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) من ذلك العذاب ، (لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ) ـ ؛ حين جاءهم عذابه
__________________
(١) البيت منسوب إلى عدى بن زيد. انظر : نهاية الأرب ٣ / ٦٥ والعقد الفريد ٢ / ٣١١.