(وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ) أي : مثل ذلك الأخذ الوبيل أخذ ربك (إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ) فلا يمهلها ، وقد يمهلها ثم يأخذها. فكل ظالم معرض لذلك. وفى الحديث عنه صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله ليملى للظّالم ، حتى إذا أخذه لم يفلته». ثم قرأ : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ ....) الآية. فالآية تعم قرى المؤمنين ؛ حيث عبّر بظالمة دون كافرة. قاله ابن عطية. (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) ؛ وجيع عظيم ، غير مرجو الخلاص منه ، وهو مبالغة فى التهديد والتحذير.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) الذي نسرده عليك من قصص الأمم الدارسة ، (لَآيَةً) ؛ لعبرة (لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) فيعتبر به ويتعظ ؛ لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد الله للمجرمين فى الآخرة. وأما من أنكر الآخرة فلا ينفعه هذا الوعظ والتذكير ؛ لفساد قلبه ، وموت روحه.
(ذلِكَ) أي : يوم القيامة الذي وقع التخويف به ، (يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ) : محشورون إليه أينما كانوا. وعبّر باسم المفعول دون الفعل ؛ للدلالة على الثبوت والاستقرار ، ليكون أبلغ ؛ لأن «مجموع» أبلغ من «يجمع». (وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) أي : تشهده أهل السموات وأهل الأرض ؛ لفصل القضاء ، ويحضره الأولون والآخرون ، لاقتضاء الثواب والعقاب. فاليوم مشهود فيه ،. فحذف الظرف اتساعا .. (وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ) أي : إلا لانتهاء مدة معدودة فى علم الله ، لا يتقدم ولا يتأخر عنها ، قد اختص الله تعالى بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة : التفكر والاعتبار من أفضل عبادة الأبرار ؛ لأنه يزهد فى الدنيا الفانية ، ويشوق إلى الدار الباقية ، ويرقق القلب ، ويستدعى مخافة الرب ، فلينظر الإنسان بعين الاعتبار فى الأمم الخالية ، والقرون الماضية ، والأماكن الدارسة ؛ كيف رحل أهلها عن الدنيا أحوج ما كانوا إليها ، وتركوها أحب ما كانت إليهم؟ وفى بعض الخطب الوعظية : أين الفراعين المتكبرة ، وأين جنودها المعسكرات؟ أين الأكاسير المنكسرة؟ وأين كنوزها المقنطرات؟ أين ملوك قيصر والروم؟ وأين قصورها المشيدات؟ أين ملوك عدن ، أهل الملابس والحيجان (١)؟ وأين ملوك اليمن ، أهل العمائم والتيجان؟ قد دارت عليهم ـ والله ـ الأقدار الدائرات ، وجرت عليهم برياحها العاصفات ، وأسكنتهم تحت أطباق الرجام (٢) المنكرات ، وصيرت أجسامهم طعمة للديدان والحشرات ، وأيمت منهم الزوجات ، وأيتمت منهم البنين والبنات. أفضوا إلى ما قدموا ، وانقادوا قهرا إلى القضاء وسلموا. فلا ما كانوا أملوا أدركوا ، ولا إلى ما فاتهم من العمل الصالح رجعوا. وبالله التوفيق.
ثم ذكر شأن ذلك اليوم المشهود ، فقال :
(يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ
__________________
(١) الحيجان : جمع غير قياسى للمحجن ، وهو : عصا معقّفة الرأس كالصولجان.
(٢) أي : الحجارة.