أن يكون أشفق ـ عليه الصلاة والسلام ـ من صعوبة استقامته التي تليق به ، فبقدر ما يعلو المقام يطلب بزيادة الأدب ، وبقدر ما يشتد القرب يتوجه العتاب. ولذلك كان الحق تعالى يعاتبه على ما لا يعاتب عليه غيره. وقد قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد تقدم كلام الإحياء فى قوله : (أَلا بُعْداً لِعادٍ) (١).
ثم قال تعالى : (وَلا تَطْغَوْا) ؛ ولا تخرجوا عما حد لكم ، (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، فيجازيكم على النقير والقطمير ، وهو تهديد لمن لم يستقم ، وتعليل للأمر والنهى. (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) : لا تميلوا إليهم أدنى ميل ، فإن الركون : هو الميل اليسير ، كالتزيى بزيهم ، وتعظيم ذكرهم ، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم. (فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) ؛ لركونهم إليهم. قال الأوزاعى : ما من شىء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور عاملا (٢). ه. وقال سفيان : فى جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. ه. وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من دعا لظالم بالبقاء ـ أي : بأن قال : بارك الله فى عمرك ـ فقد أحبّ أن يعصى الله فى أرضه» (٣) وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك فى برية ، هل يسقى شربة ماء؟ فقال : لا. فقيل له : يموت؟! فقال : دعه يموت. ه. وهذا إغراق ، ولعله فى الكافر المحارب ، والله أعلم.
قال البيضاوي : وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما موجبا للنار ، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم ، ثم بالميل إليهم ، ثم بالظلم نفسه ، والانهماك فيه. ولعل الآية أبلغ ما يتصور فى النهى عن الظلم والتهديد عليه. وخطاب الرسول صلىاللهعليهوسلم ومن معه من المؤمنين بها ؛ للتثبيت على الاستقامة التي هى العدل ؛ فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفى إفراط أو تفريط ، ظلم على نفسه أو غيره ، بل ظلم فى نفسه. ه.
(وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ) ؛ من أنصار يمنعون العذاب عنكم ، (ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) : ثم لا ينصركم الله إن سبق فى حكمه أنه يعذبكم.
ولمّا كان الركون إلى الظلم ، أو إلى من تلبس به فتنة ، وهى تكفرها الصلاة ، كما فى الحديث (٤) ، أمر بها إثره ، فقال : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ) غدوة وعشية ، (وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) ؛ ساعات منه قريبة من النهار. والمراد بالصلاة المأمور بها : الصلوات الخمس. فالطرف الأول : الصبح ، والطرف الثاني : الظهر والعصر ، والزلف من الليل : المغرب ، والعشاء ، (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) ؛ يكفرنها قال ابن عطية : لفظ الآية عام فى
__________________
(١) راجع إشارة الآيات : ٥٨ ـ ٦٠ من سورة نفسها.
(٢) المراد بالعامل هنا : الحاكم أو الوالي.
(٣) قال الحافظ العراقي فى المغني : لم أجده مرفوعا ، وإنما أورده ابن أبى الدنيا فى كتاب الصمت ، من قول الحسن البصري.
(٤) سيذكر الشيخ الحديث بعد قليل.