وقد كان الحميري وفيا لجانب كبير من هذه الخطة ، فهو حقا قد صنف معجما جغرافيا تاريخيا ، (أو إن شئت فقل معجما تاريخيا جعلت الجغرافيا مدخلا اليه) مرتبا عل حروف المعجم ، حسب ترتيبها المشرقي ، ولا ندري لم اتبع هذا الترتيب مع أنه في داخل الحرف الواحد ، حاول أن يتمشى على الترتيب المغربي ، (هل يمكن أن نفترض أن النساخ المشارقة أعادوا ترتيبه على النحو الذي يألفونه؟) ثم هو قد أضرب عن ذكر عدد كبير جدا من البلدان ، وحاول في الأغلب أن يكون ما يذكره مشهورا متصلا بحادثة أو قصة أو معنى مستملح مستغرب ولكنه إلى جانب ذلك ذكر أماكن لا شهرة لها. ولا يتعلق ذكرها بخبر طريف أو غريب ؛ وربما لم يزد التعريف بها عن سطر أو سطرين ، وكثيرا ما خرج من حيز الخبر المستطرف إلى الخبر العجيب ، وغلبت عليه الروح «العجائبية» التي ظلت ترافق كثيرا من الجغرافيين في شتى العصور ؛ أما مقايسته كتابه بنزهة المشتاق فإنها مقايسة في غير موضعها ، لأن الادريسي اقتصر إلى حد كبير على «المفهوم الجغرافي» وحاول أن يقلل ما استطاع من الشئون العجائبية ، ولذا فإن الحميري حاول أن يفرض مفهوما جديدا هو مفهوم «المتعة والعبرة» ، وذلك ربما كان في أكثره خارجا عن مفهوم مؤلف مثل الاصطخري والحوقلي والادريسي.
أما قضية الايجاز فربما كان فرضها خطأ منذ البداية لأن من شاء أن «يمتع» القراء بالأخبار لا يستطيع دائما أن يتحكم في إيرادها ، وفي مرات أحسّ ابن عبد المنعم أنه تجاوز حدود الايجاز فاعتذر عن ذلك (كما فعل في مادة الزلاقة والأندلس) ؛ ولكنه لم يحاول أن يوجز حين تحدث عن إرم والأهرام وسرد قصة بعض الفتوحات في صدر الاسلام أو حين تحدث عن حرب البسوس ومعركة ذي قار. كما أن قاعدة الإيجاز اختلت لديه لأسباب أخرى منها :
١ ـ عدم سبكه المادة المنقولة من مصادر جغرافية مختلفة ، وإنما هو يوردها تباعا ، وقد يكون المنقول عن البكري مثلا تكرارا ـ بأسلوب آخر ـ لما سبق أن نقله عن الادريسي أو عن الاستبصار.
٢ ـ تكراره المعلومات الواحدة في مادتين مختلفتين ، فما يصلح أن يكتب في مادة «الدامغان» قد يعاد نصّا في مادة «قومس» وما يذكر في مادة «الزرادة» يجيء تكرارا لبعض ما ذكر في مادة «جنابا».
٣ ـ تكراره ذكر الموضع الواحد لأن اسم البلد ورد في شكلين مختلفين مثل : لياج ـ الياج ، طرابنش ـ أطرابنش ؛ وشقة ـ وشكة ، وهكذا.
ثم إن تأليف معجم جغرافي مرتب على حروف المعجم لم يكن بالنسبة لابن عبد المنعم الذي لم يرحل ولم يكتب عن مشاهدة ـ أو حتى عن سماع ـ محوطا بكثير من التوفيق ، فقد ضخم الترتيب الهجائي من أخطائه ـ وهي أخطاء لا يمكن أن تظهر بهذا الوضوح في مؤلف جغرافي عام ، لأنها تحمل على الناسخ في الأغلب لا على المؤلف ، غير أنها تظهر واضحة في معجم مرتب على حروف الهجاء ، وقد كان الحميري يعتمد في تصنيفه على الكتب ، وكان يقرأ اسم البلد حسبما