ولما كانت دعوة الأنبياء في الحقيقة دعوة إلى حياة حقيقية ، فإنّ هذه الآية ـ عند بيان معجزات السيد المسيح عليهالسلام ـ تبدأ بذكر بثّ الحياة في الأموات بإذن الله ، وتقول على لسان المسيح : (أَنّى أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطّينِ كَهَيَةِ الطَّيرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ).
ثم تشير إلى معالجة الأمراض الصعبة العلاج أو التي لا علاج لها وتقول على لسانه : (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْىِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ) (١). لا شكّ أنّ القيام بكلّ هذه الأعمال وخاصة لدى علماء الطب في ذلك الزمان كان من المعجزات التي لا يمكن إنكارها.
بعد ذلك تشير إلى إخباره عن أسرار الناس الخافية ، فلكل امرىء في حياته بعض الأسرار التي لا يعرف الآخرون شيئاً عنها ، فإذا جاء من يخبرهم بما أكلوه ، أو ما ادّخروه ، فهذا يعني أنّه يستقي معلوماته من مصدر غيبي : (وَأُنَبّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِى بُيُوتِكُمْ). وأخيراً يقول : إنّ هذه كلها دلائل صادقة للذين يؤمنون منكم (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
تفيد هذه الآية وآيات اخرى أنّ رسل الله وأولياءه يستطيعون بإذن منه وبأمره ـ إذا اقتضى الأمر ـ أن يتدخّلوا في عالم الخلق والتكوين وأن يحدثوا ما يعتبر خارقاً للقوانين الطبيعية.
وهذا مقام أرفع من مقام الولاية التشريعية ، أي إدارة الناس وحكمهم ونشر قوانين الشريعة بينهم ودعوتهم إلى الله وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
(وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١)
هذه الآية جاءت على لسان المسيح عليهالسلام ولبيان بعض اهداف النبوّة حيث يقول : جئت اؤكّد لكم التوراة واثبت اصولها ومبادئها (وَمُصَدّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَىَّ مِنَ التَّوْرَيةِ). كما جئت لأرفع الحظر الذي فرض عليكم بالنسبة لبعض الأشياء في دين موسى عليهالسلام بسبب
__________________
(١) «اكمه» : قيل إنّه يعني أعمى ، وذهب بعض إلى أنّه العشو الليلي ، ولكن أغلب المفسّرين وأرباب اللغة ذهبواإلى أنّه يعني الأعمى منذ الولادة ، وبعض ذهب إلى أكثر من ذلك بأنّ المراد هو عدم وجود أصل العين.