تقول الآية ـ بعد شرح حياة المسيح عليهالسلام ـ إنّ ما قصصناه عليك من قصة عيسى حقيقة أنزلها الله عليك وعليه ، فإنّ المزاعم الباطلة القائلة بالوهية المسيح ، أو اعتباره ابن الله ، أو بعكس ذلك اعتباره لقيطاً ، كلها خرافات باطلة (إِنَّ هذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ).
ثم تضيف للتوكيد : إنّ الذي يليق للعبادة هو الله (وَمَا مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) وحده ، وأنّ اتخاذ معبود آخر دونه عمل بعيد عن الحق والحقيقة (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهو قادر على أن يخلق ولداً بدون أب ، وذلك على الله يسير.
الآية الثانية تهدد من لم يستسلم من هؤلاء للحق بعد الاستدلالات المنطقية في القرآن بشأن المسيح عليهالسلام وكذلك إذا لم يخضعوا للمباهلة واستمرّوا في عنادهم وتعصبهم ، لأنّ ذلك دليل على أنّهم ليسوا طلاب حق ، بل هم مقيدون بأغلال تعصبهم المجحف ، وأهوائهم الجامحة ، وتقاليدهم المتحجرة ، وبذلك يكونون من المفسدين في المجتمع : (فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ).
(قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤)
الدعوة إلى الإتحاد : في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكل تفاصيله) ولكن الدعوة هذه المرّة تتّجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب ، وبهذا يعلّمنا القرآن درساً ، مفاده : أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في جميع أهدافكم ، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل ، بل إسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم ، كقاعدة للإنطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدسة (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيًا).
(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).
لو أنّهم ـ بعد دعوتهم دعوة منطقية إلى نقطة التوحيد المشتركة ـ أصرّوا على الإعراض ، فلابد أن يقال لهم : اشهدوا أنّنا قد أسلمنا للحق ، ولم تسلموا ، وبعبارة اخرى : فاعلموا أنّ من يطلب الحق ، ومن يتعصّب ويعاند. ثم قولوا لهم : (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ). فلا تأثير لعنادكم وعصيانكم وابتعادكم عن الحق في أنفسنا ، وإنّا ما زلنا على طريقنا ـ طريق الإسلام ـ سائرون ، لا نعبد إلّاالله ، ولا نلتزم إلّاشريعة الإسلام ، ولا وجود لعبادة البشر بيننا.