أمّا بشأن مكان هذا الإنفاق ، أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقد ذكر المفسرون لذلك احتمالين إثنين ، ولكن ظاهر الآية يدل على العالم الآخر ، أي كانوا كافرين (وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ). فلو كانوا يملكون ملء الأرض ذهباً ، وظنّوا أنّهم بالاستفادة من هذا المال ، كما هي الحال في الدنيا ، يستطيعون أن يدرأوا العقاب عن أنفسهم ، فهم على خطأ فاحش ، وفي الواقع فإنّ مضمون هذه الآية يشبه قوله تعالى في الآية (١٥) من سورة الحديد : (فَالْيَوْمَ لَايُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ).
وفي الختام يشير إلى نكتة اخرى في المقام ويقول : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ).
لا شك في أنّهم سينالون عقاباً شديداً مؤلماً ، ولن يكون بإستطاعة أحد أن ينتصر أو يشفع لهم ، لأنّ الشفاعة لها شرائط ، وأهمها الإيمان بالله ، ولهذا السبب فلو أن جميع الشفعاء اجتمعوا لإنقاذ أحد الكفار من عذاب النار لم تقبل شفاعتهم. وأساساً ، بما أنّ الشفاعة بإذن الله ، فإنّ الشفعاء لا يشفعون أبداً لمثل هؤلاء الأفراد غير اللائقين للشفاعة ، لأنّ الشفاعة تحتاج إلى قابلية المحل ، والإذن الإلهي لا يشمل الأفراد غير اللائقين.
(لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢)
من علائم الإيمان : بعد أن تحدثت الآية السابقة عن حال الكفار حينما يواجهون الواقع يوم القيامة ، ويودون لو أنفقوا ملء الأرض ذهباً ليفتدوا به ، جاءت هذه الآية لتعطي درساً مهماً في «الإنفاق» بالمناسبة ، فقد قال سبحانه وتعالى في هذه الآية : (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).
إنّ لكلمة «البر» معنى واسعاً يشمل كل أنواع الخير إيماناً كان أو أعمالاً صالحة ، كما أنّ المستفاد من الآية (١٧٧) من سورة البقرة هو إعتبار «الإيمان بالله واليوم الآخر ، والأنبياء ، وإعانة المحتاجين ، والصّلاة ، والصيام ، والوفاء ، والإستقامة في البأساء والضراء» جميعها من شعب البر ومصاديقه. وعلى هذا فإنّ للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطاً عديدة ، منها : الإنفاق مما يحبه الإنسان من الأموال.
وحتى يطمئن المنفقون إلى أنّ أي شيء مما ينفقونه لن يعزب عن الله سبحانه ولن يضيع ، عقب الله على حثه للناس على الإنفاق مما يحبون بقوله : (وَمَا تُنفِقُوا مِن شَىْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ