تلوذون بالجبل أو تنتشرون في السهل ، تاركين رسول الله وحده بين المهاجمين المباغتين من المشركين وهو يدعوكم من ورائكم ويناديكم قائلاً : «إليّ عباد الله ـ إليّ عباد الله فإنّي رسول الله». وأنتم لا تلتفتون إلى الوراء أبداً ، ولا تلبّون نداء النبي صلىاللهعليهوآله.
وفي ذلك الوقت أخذت الهموم والأحزان تترى عليكم (فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمّ) لِما أصابكم من النكسة ولفقدان مجموعة كبيرة من خيار فرسانكم وجنودكم ولِما بلغكم من شائعة قتل النبي صلىاللهعليهوآله.
ولقد كان هجوم تلك الغموم عليكم من أجل أن لا تحزنوا على ما فاتكم من غنائم الحرب ، وما أصابكم من الجراحات في ساحة المعركة في سبيل تحقيق الإنتصار (لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَافَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ).
(وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ). فهو يعرف جيداً من ثبت منكم وأطاع وكان مجاهداً واقعياً ومن هرب وعصى.
إتسمت الليلة التي تلت معركة «احد» بالقلق والاضطراب الشديدين ، فقد كان المسلمون يتوقعون أن يعود جنود قريش الفاتحون المنتصرون إلى المدينة مرّة اخرى لاجتياح البقية الباقية من القوة الإسلامية.
بيد أنّه كان هناك بين المسلمين ثلة من المجاهدين الصادقين الذين ندموا على الفرار من الميدان في «احد» فتابوا إلى الله ، واطمأنوا إلى وعود النبي الكريم صلىاللهعليهوآله حول المستقبل.
وإلى هذا كله يشير الكتاب العزيز في الآية الحاضرة إذ يقول : (ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِّنكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ) (١).
ثم إنّ القرآن الكريم يعمد إلى بيان واستعراض طبيعة ما كان يدور بين اولئك المنافقين وضعاف الإيمان من أحاديث وحوار ، وما كان يدور في خلدهم من ظنون وأفكار ، إذ يقول : «يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ).
إنّهم كانوا يظنون بالله ما كانوا يظنونه به أيام كانوا يعيشون في الجاهلية ، وقبل أن تبزغ عليهم شمس الإسلام فقد كانوا يتصورون أنّ الله سيكذبهم وعده ويظنون أنّ وعود النبي صلىاللهعليهوآله غير محققة ولا صادقة وكان يقول بعضهم للآخر : (هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَىْءٍ).
__________________
(١) «الأمنة» : أي الأمن ، والنعاس هو النوم الخفيف.