ولشدّة تعلّقهم بالبلاغة واحترامهم لأربابها ، كانوا يطلقون على الشاعر المفلَّق الفحل صفة : (العبقريّ)(١) ، وينسبونه إلى وادي (عبقر) ، زاعمين أنّ جنّ هذا الوادي أو بعضهم يأتون إلى هذا الشاعر ويلقون على لسانه مايعجز عنه الآخرون.
بل لشدّة هذا الاهتمام كانوا يكتبون أروع القصائد بماء الذهب ويعلّقونها على الكعبة ، فلذلك نشأت عندهم المعلّقات ، التي يعتزّون بها ربّما أكثر من اعتزازهم بأبطالهم ومحاربيهم.
ولهذا الأدب الثَّرّ كانوا أرقى أُمّةً في الفصاحة لايجاريهم فيها أحد ولا تكسر لهم في ذلك شوكة ، حتّى إذا جاء الرسول الأعظم محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم)بالقرآن الكريم بُهتوا وتحيّروا وعجزوا عن مجاراته ، مع أنّه تحدّاهم بأن يأتوا بسورة من مثله ، فلذلك راحوا ينعتونه تارةً بأنّه (شعر) ، أو (سحر) ، وأُخرى بأنّه (من أساطير الأوّلين) ووو ..
حتّى عجب قيس بن عاصم المنقريّ ـ رغم كفره ـ فقال لمّا سمع آيات من الذكر الحكيم : «والله إنّ له لطَلاوة ، وإنّ عليه لَحَلاوة ، وأسفله لَمُغْدِق ، وأعلاه مثمر ، ومايقول هذا بشر ...»(٢).
وكانت بلاغة النبيّ محمّـد (صلى الله عليه وآله وسلم) تالية لكتاب الله من حيث
__________________
(١) عن البيضاوي : «العبقري منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنّه اسم بلد الجنّ ؛ فينسبون إليه كلّ شيء عجيب ..». (بحار الأنوار ٦٨ / ٧٤)
وقال أبو عبيدة : «العبقري : من الرجال الذي ليس فوقه شيء ، ويطلق على السيّد والبيت والكبير. وقيل : هو منسوب إلى عبقر ، موضع بالباديّة يسكنه الجنّ ، فأطلقه العرب على كلّ ما كان عظيماً في نفسه فائقاً في جنسه». (مقدّمة فتح الباري : ١٤٩)
(٢) تفسير القرطبي ١٧ / ١٥١.