رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفر ، فرأى زحاما ، ورجل قد ظلل عليه ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : صائم ، فقال : ليس من البرّ الصوم في السفر. فلا ينافي هذا ما تقدم ، كما لا يرد أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لأن السياق والقرائن تدل على تخصيصه بمن شقّ عليه الصوم. وما تقدم ، في غيره.
قال ابن دقيق العيد : وينبغي أن يتنبه للفرق بين دلالة السبب والسياق والقرائن على تخصيص العام ، وعلى مراد المتكلم ؛ وبين مجرد العام على سبب. فإن بين المقامين فرقا واضحا. ومن أجراهما مجرى واحدا لم يصب. فإنّ مجرد ورود العام على سبب لا يقتضي التخصيص به. كنزول آية السرقة في قصة رداء صفوان. وأمّا السياق والقرائن الدالة على مراد المتكلم فهي المرشدة إلى بيان المجملات كما في هذا الحديث. انتهى. وهو استنباط جيد. وبالجملة : فالمريض والمسافر يباح لهما الفطر. فإن صاما ، صحّ. فإن تضرّرا ، كره ..!.
الثالث : لم يكن من هديه صلىاللهعليهوسلم تقدير المسافة التي يفطر فيها الصائم بحدّ ، ولا صحّ عنه في ذلك شيء. وقد أفطر دحية بن خليفة الكلبيّ في سفر ثلاثة أميال ، وقال لمن صام : قد رغبوا عن هدي محمد صلىاللهعليهوسلم ..! وكان الصحابة حين ينشئون السفر يفطرون من غير اعتبار مجاوزة البيوت ، ويخبرون أنّ ذلك سنته وهديه صلىاللهعليهوسلم. كما قال عبيد بن جبر (١) : ركبت مع أبي بصرة الغفاريّ صاحب رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان. فلم نجاوز البيوت حتى دعا بالسفرة. قال : اقترب. قلت : ألست ترى البيوت؟ قال أبو بصرة : أترغب عن سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ رواه أبو داود وأحمد. ولفظ أحمد : ركبت مع أبي بصرة من الفسطاط إلى الإسكندرية في سفينة ، فلما دفعنا من مرسانا أمر بسفرته فقربت ، ثم دعاني إلى الغداء. وذلك في رمضان ، فقلت يا أبا بصرة! والله ما تغيبت عنا منازلنا بعد. فقال : أترغب عن سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ فقلت لا! قال : فلم نزل مفطرين حتى بلغنا ما حوزنا (قيل : أي موضعهم الذي أرادوه) وقال (٢) محمد بن كعب : أتيت أنس بن مالك في رمضان ـ وهو يريد السفر ـ وقد رحلت راحلته ، وقد لبس ثياب السفر ، فدعا بطعام فأكل ، فقلت له : سنة؟ قال : سنّة. ثم ركب. قال الترمذي : حديث حسن. وقال الدارقطنيّ فيه : فأكل وقد تقارب غروب الشمس ..! وهذه الآثار صريحة أنّ من أنشأ السفر في أثناء يوم من
__________________
(١) أخرجه أبو داود في : الصوم ، ٤٦ ـ باب متى يفطر المسافر إذا خرج ، حديث ٤٢١٢.
(٢) أخرجه الترمذيّ في : الصوم ، ٧٦ ـ باب من أكل ثم خرج سفرا.