التوصل بالشر الخاص إلى الخير العام خير محض ، لا ينبغي لحكيم أن يهمله. هذا أو قريب من هذا. وفي بعض كلامه نظر قد أوضحته في (العواصم) والسر في ذلك أن الله تعالى لا يريد الشر لكونه شرا قطعا ، وإنما يريده وسيلة إلى الخير الراجح كما قال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ١٧٩] ، وكما صح في الحدود والمصائب أنها كفارات ، فهذا هو سر القدر في الجملة ، وإنما الذي خفي تفصيله ومعرفته في عذاب الآخرة وشقاوة الأشقياء ، فمن الناس من كبر ذلك عليه وأداه إلى الحكم بنفي التحسين والتقبيح ، فصرحوا بنفي حكمة الله تعالى ، وهم غلاة الأشعرية ، إلا بمعنى إحكام المصنوعات في تصويرها لا سواه ، ومن الناس من أداه ذلك إلى القول بالجبر ، ونفي قدرة العباد واختيارهم ، ومنهم من جمع بينهما. ومن الناس من جعل الوجه في تحسين ذلك من الله عدم قدرته سبحانه على هدايتهم ، وهم جمهور المعتزلة ، لكنهم يعتذرون عن تسميته عجزا ، ويسمونه غير مقدور. ومنهم من جعل العذر في ذلك أن الله لا يعلم الغيب ، وهم غلاة القدرية ، نفاة الأقدار. وقد تقصيت الردود الواضحة عليهم ، والبراهين الفاضحة لهم في (العواصم) ، وجمعت في ذلك ما لم أسبق إليه ولا إلى قريب منه ، في علمي. فتمت هذه المسألة في مجلد ضخم ، وبلغت أحاديث وجوب الإيمان بالقدر اثنين وسبعين ، وأحاديث صحته مائة وخمسة وخمسين ، الجملة مائتان وسبعة وعشرون حديثا ، من غير الآيات القرآنية ، والأدلة البرهانية. وصنف ابن تيمية في بيان الحكمة في العذاب الأخرويّ ، وتبعه تلميذه ابن قيّم الجوزية ، وبسط ذلك في كتابه (حادي الأرواح إلى ديار الأفراح) ، فأفردت ذلك في جزء لطيف وزادت عليه. ومضمون كلامهم أنه لا يجوز اعتقاد أن الله لا يريد الشر لكونه شرا ، بل لا بد من خير راجح يكون ذلك الشر وسيلة إليه ، وذلك الخير هو تأويل ذلك الشر السابق له على نحو تأويل الخضر لموسى. وطردوا ذلك في شرور الدارين معا. ونصر ذلك الغزاليّ في شرح (الرحمن الرحيم) ، ولنورد في ذلك حديثا واحدا ، مما يدل على المنع من الخوض في تعيين الحكمة في ذلك فنقول : قال البيهقيّ في كتابه (الأسماء والصفات) عن عمرو بن ميمون ، عن ابن عباس : لما بعث الله موسى وكلمه قال : اللهم! أنت رب عظيم ، ولو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت أن لا تعصى لما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع ، وأنت في ذلك تعصى ، فكيف هذا يا رب؟ فأوحى الله إليه أني لا أسأل عما أفعل ، وهم يسألون. فانتهى موسى.
ورواه الهيثميّ في مجمع الزوائد ، وعزاه إلى الطبرانيّ ، وزاد فيه : فلما بعث الله