قال الناصر في (الانتصاف) : وقد وردت (جَعَلَ) و (خَلَقَ) موردا واحدا. فورد : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١]. وورد : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها) [الأعراف : ١٨٩]. وذلك ظاهر في الترادف. إلا أن للخاطر ميلا إلى الفرق الذي أبداه الزمخشري. ويؤيده أن (جَعَلَ) لم يصحب السموات والأرض ، وإما لزمتهما (خَلَقَ). وفي إضافة (الخلق) في هذه الآية إلى السموات والأرض ، و (الجعل) إلى الظلمات والنور ، مصداق للمميّز بينهما ـ والله أعلم ـ
الثالثة ـ إن قيل : لم جمعت السموات دون الأرض مع أنها مثلهن لقوله تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الطلاق : ١٢]. وفي الحديث (١) : هل تدرون ما هذه؟ قالوا : هذه أرض. هل تدرون ما تحتها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم؟ قال : أرض أخرى ، وبينهما مسير خمسمائة عام ، حتى عدّ سبع أرضين ، بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام ـ أخرجه الترمذيّ ، وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه؟.
فالجواب : لأن السموات طبقات متفاضلة بالذات ، مختلفة بالحقيقة ، بخلاف الأرضين ـ كما قاله البيضاوي ـ.
وقال الرازي : إن السماء جارية مجرى الفاعل. والأرض مجرى القابل. فلو كانت السماء واحدة لتشابه الأثر ، وذلك يخلّ بمصالح هذا العالم. أما لو كانت كثيرة اختلفت الاتصالات الكوكبية ، فحصل بسببها الفصول الأربعة ، وسائر الأحوال المختلفة ، وحصل بسبب تلك الاختلافات مصالح هذا العالم. أما الأرض فهي قابلة للأثر ، والقابل الواحد كاف في القبول. انتهى.
وقدم السموات لشرفها وعلوّ مكانها.
الرابعة ـ الظاهر في (الظلمات والنور) أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر. والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما. والأصل اللفظ على حقيقته. ولأن (الظلمات والنور) إذا قرنا بالسموات والأرض ، لم يفهم منهما إلا الأمران المحسوسان ، ونقل عن بعض السلف أنه عنى بهما الكفر والإيمان.
ورجح الرازي الأول لما ذكر.
ووجه بعضهم الثاني بأن المعنى : أنه لما خلق السموات والأرض ، فقد نصب
__________________
(١) أخرجه الترمذي في : التفسير ، ٥٧ ـ سورة الحديد.