الخوف من الفاقة المتوهمة من انقطاعهم ـ ذكر بعده حكم أهل الكتاب. هو أن يقاتلوا إلى أن يسلموا أو يعطوا الجزية ، منبها في تضاعيف ذلك على بعض طرق الإغناء الموعود على الوجه الكلي ، مرشدا إلى سلوكه ابتغاء لفضله ، واستنجازا لوعده.
قال مجاهد : نزلت الآية حين أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك. وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. انتهى.
ولا يخفي شمول الآية لكل ذلك بلا تخصيص.
قال ابن كثير : هذه الآية أول أمر نزل بقتال أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ وكان ذلك في سنة تسع ، ولهذا تجهز رسول الله صلىاللهعليهوسلم لقتال الروم ، ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة ، فندبهم ، فأوعبوا معه ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفا ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ، ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ وحرّ. وخرج رسول الله صلىاللهعليهوسلم يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، ونزل بها ، وأقام بها قريبا من عشرين يوما ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامة ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى. انتهى.
والتعبير عن (أهل الكتاب) بالموصول المذكور ، للإيذان بعلّية ما في حيز الصلة للأمر بالقتال ، فإنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، كما أمر تعالى ، إذ لديهم من فساد العقيدة ، فيما يجب له تعالى ، وفي البعث ، أعظم ضلال وزيغ ، (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) ، يعني ما ثبت تحريمه في الكتاب والسنة. وقيل : المراد برسوله الرسول الذي يزعمون اتباعه ، فالمعنى أنهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا وعملا ، إذ غيّروا وبدّلوا اتباعا لأهوائهم.
قال الشهاب : فيكون المراد : لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم ، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم. وقوله تعالى : (دِينَ الْحَقِ) من إضافة الموصوف للصفة ، أو المراد بـ (الْحَقِ) ، الله تعالى. وقوله تعالى : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) أي ما تقرر عليهم أن يعطوه.
قال ابن الأثير : الجزية المال الذي يعقد عليه الكتابيّ الذمة ، وهي (فعلة) من الجزاء كأنها جزت عن قتله.