قال الجمل : «قوله : (فَأَسْرِ) قرأ الجمهور بقطع الهمزة وقرأ نافع وابن كثير بوصلها ، وهما لغتان جيدتان : الأولى من أسريت والثانية من سريت. قال ـ تعالى ـ (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وقال : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) والإسراء السير ليلا ، فذكر الليل ـ هنا ـ تأكيد له بغير اللفظ ـ إذ الإسراء والسرى : السير ليلا» (١).
والكلام على تقدير القول ، أى : فقال الله ـ تعالى ـ على سبيل التعليم والإرشاد : سر يا موسى ببني إسرائيل وبمن آمن معك من القبط من مصر ، بقطع من الليل (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) من جهة فرعون وملئه ، متى علموا بخروجكم.
(وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً ...) أى : ومتى وصلت إلى البحر ـ أى : البحر الأحمر ـ فاضربه بعصاك ، ينفلق ـ بإذن الله ـ فسر فيه أنت ومن معك ، واتركه ساكنا مفتوحا على حاله ، فإذا ما سار خلفك فرعون وجنوده أغرقناهم فيه.
يقال : رها البحر يرهو ، إذا سكن. وجاءت الخيل رهوا ، أى : ساكنة ، ويقال ـ أيضا ـ : رها الرجل رهوا ، إذا فتح بين رجليه وفرق بينهما ، وهو حال من البحر.
قال الإمام الرازي : «وفي لفظ (رَهْواً) قولان :
أحدهما : أنه الساكن ، يقال : عيش راه ، إذا كان خافضا وادعا ساكنا ...
والثاني : أن الرهو هو الفرجة الواسعة ، أى : ذا رهو ، أى : ذا فرجة حتى يدخل فيها فرعون وقومه فيغرقوا .. وإنما أخبره ـ سبحانه ـ بذلك حتى يبقى فارغ القلب من شرهم وإيذائهم» (٢).
وقوله : (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) تعليل للأمر بتركه رهوا ، أى : اترك البحر على حاله ، فإن أعداءك سيغرقون فيه إغراقا يدمرهم ويهلكهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مآلهم فقال : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) و (كَمْ) هنا خبرية للتكثير والتهويل ، أى : ما أكثر ما ترك هؤلاء المغرقون خلفهم من بساتين ناضرة ، وعيون يخرج منها الماء النمير ..
(وَزُرُوعٍ) كثيرة متنوعة (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) أى : ومحافل ومنازل كانت مزينة بألوان من الزينة والزخرفة ..
(وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أى : وتنعم وترفه كانوا فيه يتلذذون ، بما بين أيديهم من رغد العيش. وكثرة الفاكهة ..
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٠٤.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٤٥٣.