أَحْمَدُ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ الموقف القبيح الذي وقفه بنو إسرائيل من نعم الله عليهم فقال : (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).
والبغي : تجاوز الحق إلى الباطل في كل شيء. يقال بغت المرأة إذا أتت مالا يحل لها. وبغى فلان على فلان إذا اعتدى عليه ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ).
والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال أو الأوقات ، وقوله : (بَغْياً) مفعول لأجله.
أى : أن بنى إسرائيل أنعمنا عليهم بتلك النعم الدينية والدنيوية ، فما اختلفوا في أمور دينهم التي وضحناها لهم ، إلا عن علم لا عن جهل ، ولم يكن خلافهم في حال من الأحوال إلا من أجل البغي والحسد فيما بينهم ، لا من أجل الوصول إلى الحق.
فأنت ترى أن الجملة الكريمة توبخ بنى إسرائيل توبيخا شديدا ، لأنها بينت أن خلافهم لم يكن عن جهل ، وإنما كان عن علم ، والاختلاف بعد العلم بالحق أقبح وأشنع ، وأن اختلافهم لم يكن من أجل الوصول إلى الحق ، وإنما كان سببه البغي والحسد.
فهم قد اختلفوا في الحق مع علمهم به ، لأن العلم كالمطر ، لا تستفيد منه إلا الأرض الطيبة النقية ، وكذلك لا يستفيد من العلم إلا أصحاب النفوس الصافية ، والقلوب الواعية .. والنفوس عند ما يستولى عليها الهوى ، تحول المقتضى إلى مانع.
ورحم الله الإمام الرازي فقد قال عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : والمقصود من هذه الجملة ، التعجب من أحوالهم ، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف. وهاهنا صار مجيء العلم سببا لحصول الاختلاف ، وذلك لأنهم لم يكن مقصودهم من العلم نفس العلم ، وإنما المقصود منه طلب الرياسة والبغي (٢).
وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بيان لحكم الله العادل فيهم.
أى : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ يقضى بين هؤلاء المختلفين يوم القيامة ، بقضائه العادل ، بأن ينزل بهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ما كانوا يختلفون فيه من أمر الدين ، الذي جعل الله أحكامه واضحة لهم ، ولا تحتمل الاختلاف أو التنازع.
ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يتمسك بالدين الذي أوحاه إليه ، فقال :
__________________
(١) سورة الصف الآية ٦.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ٧ ص ٤٦٧.