(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها).
والشريعة في الأصل تطلق على المياه والأنهار التي يقصدها الناس للشرب منها ، والمراد بها هنا : الدين والملة ، لأن الناس يأخذون منهما ما تحيا به أرواحهم ، كما يأخذون من المياه والأنهار ما تحيا به أبدانهم.
قال القرطبي : الشريعة في اللغة : المذهب والملة. ويقال لمشرعة الماء ـ وهي مورد الشاربة ـ شريعة. ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد. فالشريعة : ما شرع الله لعباده من الدين ، والجمع الشرائع والشرائع في الدين المذاهب التي شرعها الله ـ تعالى ـ لخلقه (١).
أى : ثم جعلناك ـ أيها الرسول الكريم ـ على شريعة ثابتة ، وسنة قويمة ، وطريقة حميدة ، من أمر الدين الذي أوحيناه إليك ، (فَاتَّبِعْها) اتباعا تاما لا انحراف عنه (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من أهل الكفر والضلال والجهل.
وقد ذكروا أن كفار قريش قالوا للنبي صلىاللهعليهوسلم ارجع إلى دين آبائك ، فإنهم كانوا أفضل منك ، فنزلت هذه الآية.
وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) تعليل للنهى عن اتباع أهوائهم.
أى : إنك ـ أيها الرسول الكريم ـ إن اتبعت أهواء هؤلاء الضالين ، صرت مستحقا لمؤاخذتنا ، ولن يستطيع هؤلاء أو غيرهم ، أن يدفع عنك شيئا مما أراده الله ـ تعالى ـ بك.
(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أى : بعضهم نصراء بعض في الدنيا ، أما في الآخرة فولايتهم تنقلب إلى عداوة.
(وَاللهُ) ـ تعالى ـ هو (وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ) الذين أنت إمامهم وقدوتهم ، فاثبت على شريعتنا التي أوحيناها إليك ، لتنال ما أنت أهله من رضانا وعطائنا.
ثم أثنى ـ سبحانه ـ على القرآن الكريم الذي أنزله على نبيه صلىاللهعليهوسلم فقال : (هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
والبصائر : جمع بصيرة ـ وهي للقلب بمنزلة البصر للعين. فهي النور الذي يبصر به القلب هدايته ، كما أن البصر هو النور الذي تبصر به العين طريقها.
وقوله : (هذا) مبتدأ ، وبصائر خبره ، وجمع الخبر باعتبار ما في القرآن من تعدد الآيات والبراهين.
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٦ ص ١٦٣.