أى : بل أحسب هؤلاء المنافقون الذين امتلأت قلوبهم بمرض الكفر والضلال ، أن الله ـ تعالى ـ غير قادر على إظهار أحقادهم الشديدة لرسوله صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين؟
إن حسبانهم هذا هو لون من جهالاتهم ومن غباوتهم وانطماس بصائرهم.
لأن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر قدرته فقال : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).
والمراد بالإراءة هنا : التعريف والعلم الذي يقوم مقام الرؤية بالبصر ، كما في قولهم : سأريك يا فلان ما أصنع بك. أى : سأعلمك بذلك.
والفاء في قوله : (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) لترتيب المعرفة على الإراءة ، والمراد بسيماهم : علاماتهم. يقال : سوم فلان فرسه تسويما ، إذا جعل له علامة يتميز بها.
وكررت اللام في قوله : (فَلَعَرَفْتَهُمْ) للتأكيد.
ولحن القول : أسلوب من أساليبه المائلة عن الطريق المعروفة ، كأن يقول للقائل قولا يترك فيه التصريح إلى التعريض والإبهام ، يقال : لحنت لفلان ألحن لحنا ، إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره.
قال الجمل : واللحن يقال على معنيين ، أحدهما : الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك ـ ومنه قول الرسول صلىاللهعليهوسلم لبعض أصحابه في غزوة الأحزاب : «وإن وجدتموهم ـ أى : بنى قريظة ـ على الغدر فالحنوا لي لحنا أعرفه».
والثاني : صرف الكلام من الإعراب إلى الخطأ ـ أى : من النطق السليم إلى النطق الخطأ ـ.
ويقال من الأول : لحنت ـ بفتح الحاء ـ ألحن فأنا لاحن ، ويقال من الثاني : لحن ـ بكسر الحاء إذا لم ينطق نطقا سليما ـ فهو لحن (١).
والمعنى : ولو نشاء إعلامك وتعريفك ـ أيها الرسول الكريم ـ بهؤلاء المنافقين وبذواتهم وأشخاصهم لفعلنا ، لأن قدرتنا لا يعجزها شيء (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أى : بعلاماتهم الخاصة بهم ، والتي يتميزون بها عن غيرهم.
(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ) ـ أيضا ـ (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أى : ولتعرفنهم بسبب أقوالهم المائلة عن
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٥٣.