وفي وصف أصحابه بأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، مدح عظيم لهم ، وجمع بين الوصفين على سبيل الاحتراس ، فهم ليسوا أشداء مطلقا ، ولا رحماء مطلقا ، وإنما شدتهم على أعدائهم ، ورحمتهم لإخوانهم في العقيدة ، وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ، يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ...) (١).
قال صاحب الكشاف : «وعن الحسن أنه قال : «بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم ، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم ، أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه ..» (٢).
وأسمى من هذا كله في بيان تراحمهم قوله ـ تعالى ـ : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ ..).
ثم وصفهم بوصف آخر فقال : (تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً).
أى : تراهم وتشاهدهم ـ أيها العاقل ـ راكعين ساجدين محافظين على الصلاة ولا يريدون من وراء ذلك إلا التقرب إلى الله ـ تعالى ـ والظفر برضاه وثوابه ..
ثم وصفهم بوصف ثالث فقال : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ..) أى : علامتهم وهو نور يجعله الله ـ تعالى ـ في وجوههم يوم القيامة ، وحسن سمت يعلو وجوههم وجباههم في الدنيا ، من أثر كثرة سجودهم وطاعتهم لله رب العالمين.
فالمقصود بهذه الجملة بيان أن الوضاءة والإشراق والصفاء .. يعلو وجوههم من كثرة الصلاة والعبادة لله ، وليس المقصود أن هناك علامة معينة ـ كالنكتة التي تكون في الوجه ـ كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان.
واختار ـ سبحانه ـ لفظ السجود ، لأنه يمثل أعلى درجات العبودية والإخلاص لله ـ تعالى ـ.
قال الآلوسى : «أخرج ابن مردويه بسند حسن عن أبى بن كعب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «في قوله ـ تعالى ـ : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) النور يوم القيامة».
ثم قال الآلوسى : ولا يبعد أن يكون النور علامة على وجوههم في الدنيا والآخرة ـ للآثار
__________________
(١) سورة المائدة الآية ٥٤.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٤٦.