والمراد بالإنسان في قوله ـ تعالى ـ : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ..) جنسه. وقوله : (تُوَسْوِسُ) من الوسوسة وهو الصوت الخفى ، والمراد به حديث الإنسان مع نفسه. قال الشاعر :
وأكذب النفس إذا حدثتها |
|
إن صدق النفس يزرى بالأمل |
و (ما) موصولة ، والضمير عائد عليها والباء صلة ، أى : ونعلم الأمر الذي تحدثه نفسه به. ويصح أن تكون مصدرية ، والضمير للإنسان ، والباء للتعدية ، أى ونعلم وسوسة نفسه إياه.
والمتدبر في هذه الآية يرى أن افتتاحها يشير إلى مضمونها ، لأن التعبير بخلقنا ، يشعر بالعلم التام بأحوال المخلوق ، إذ خالق الشيء وصانعه أدرى بتركيب جزئياته. أى : والله لقد خلقنا بقدرتنا هذا الإنسان. ونعلم علما تاما شاملا ما تحدثه به نفسه من أفكار وخواطر ..
وقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) تقرير وتوكيد لما قبله.
وحبل الوريد : عرق في باطن العنق يسرى فيه الدم ، والإضافة بيانية. أى : حبل هو الوريد. أى : ونحن بسبب علمنا التام بأحواله كلها ، أقرب إليه من أقرب شيء لديه ، وهو عرق الوريد الذي في باطن عنقه ، أو أقرب إليه من دمائه التي تسرى في عروقه.
فالمقصود من الآية الكريمة بيان أن علم الله ـ تعالى ـ بأحوال الإنسان ، أقرب إلى هذا الإنسان ، من أعضائه ومن دمائه التي تسرى في تلك الأعضاء.
والمقصود من القرب : القرب عن طريق العلم ، لا القرب في المكان لاستحالة ذلك عليه ـ تعالى ـ.
قال القرطبي : قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) يعنى الناس. (وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أى : ما يختلج في سره وقلبه وضميره ، وفي هذا زجر عن المعاصي التي استخفى بها .. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) هو حبل العاتق ، وهو ممتد من ناحية حلقه إلى عاتقه ، وهما وريدان عن يمين وشمال .. والحبل هو الوريد فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين .. وهذا تمثيل لشدة القرب. أى : ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذي هو من نفسه .. وهذا القرب ، هو قرب العلم والقدرة ، وأبعاض الإنسان يحجب البعض البعض ، ولا يحجب علم الله ـ تعالى ـ شيء (١).
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ٩.