للسببية ، لأن تصرفهم في البلاد مسبب عن اشتداد بطشهم ، وهي على الوجهين عاطفة على معنى ما قبلها ، كأنه قيل : اشتد بطشهم فنقبوا في البلاد .. (١).
والاستفهام في قوله ـ سبحانه ـ : (هَلْ مِنْ مَحِيصٍ) للإنكار والنفي ، والمحيص : المعدل والمهرب ، يقال : حاص فلان عن الشيء يحيص حيصا ، ومحيصا ، إذا عدل وحاد عنه ، وحاول الهروب منه. أى : أن هؤلاء المكذبين السابقين ، كانوا أشد من مشركي قريش قوة وأكثر جميعا ، وكانوا أكثر ضربا في الأرض وسيرا فيها فلما نزل بهم بأسنا حاولوا الهرب والفرار ، فلم يجدوا مكانا يهربون فيه ، بل نزل بهم عذابنا فدمرناهم تدميرا.
فعليكم ـ أيها المشركون ـ أن تعتبروا بهم ، حتى لا يصيبكم ما أصابهم.
فالمقصود بالآية الكريمة ، تسلية الرسول صلىاللهعليهوسلم وتحذير أعدائه من سوء عاقبة الكفر والعناد.
(إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك للأمم المكذبة السابقة (لَذِكْرى) أى : لتذكرة وعبرة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أى : لمن كان له قلب يعي ما يسمع ، ويعقل ما يوجه إليه ، ويعمل بمقتضى هذا التوجيه الحكيم. (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أى : فيما سقناه عبرة وعظة لمن كان له قلب يعي الحقائق ، ولمن أصغى إلى ما يلقى إليه من إرشادات ، وهو حاضر الذهن صادق العزم لتنفيذ ما جاءه من الحق ..
قال صاحب الكشاف : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) أى : قلب واع ، لأن من لا يعي قلبه فكأنه لا قلب له ، وإلقاء السمع : الإصغاء. (وَهُوَ شَهِيدٌ) أى : حاضر بفطنته ، لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب .. أو هو مؤمن شاهد على صحته ، وأنه وحى الله .. (٢).
ثم بين ـ سبحانه ـ مظاهر قدرته ووحدانيته فقال : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ). واللغوب : التعب والنصب والإعياء ، مصدر لغب ـ كدخل ـ يقال : لغب فلان لغوبا ، إذا اشتد تعبه وضعفه.
أى : والله لقد خلقنا بقدرتنا السموات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلا الله ، في ستة أوقات وما مسنا بسبب هذا الخلق العظيم نصب أو تعب أو إعياء.
فالمراد بالأيام مطلق الأوقات التي لا يعلم مقدارها إلا الله ـ تعالى ـ وقيل : هذه الأيام من أيام الدنيا ، وقيل : من أيام الآخرة ..
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ١٩١.
(٢) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٩٢.