جاحدين للنبوة رأسا ، كذبوا نوحا لأنه من جملة الرسل .. (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) بيان لما كانوا عليه من انطماس بصيرة ، ومن سوء خلق .. أى : أنهم لم يكتفوا بتكذيب نبيهم ومرشدهم وهاديهم إلى الخير. بل أضافوا إلى ذلك وصفه بالجنون ، والاعتداء عليه بأنواع الأذى والترهيب.
فقوله : (وَازْدُجِرَ) معطوف على قوله (قالُوا) وهو مأخوذ من الزجر بمعنى المنع والتخويف ، وصيغة الافتعال للمبالغة في زجره وإيذائه.
وقد حكى القرآن في آيات أخرى ألوانا من هذا الزجر والإيذاء ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ كما حكى عنهم : (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ).
ثم حكى ـ سبحانه ـ ما فعله نوح ـ عليهالسلام ـ بعد أن صبر على إيذاء قومه فقال : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ).
أى : وبعد أن يئس نوح ـ عليهالسلام ـ من إيمان قومه .. تضرع إلى ربه قائلا : يا رب إن قومي قد غلبوني بقوتهم وتمردهم ... فانتصر لي منهم ، فأنت أقوى الأقوياء ، وأعظم نصير للمظلومين والمغلوبين على أمرهم من أمثالى.
وحذف متعلق «فانتصر» للإيجاز. أى : فانتقم لي منهم.
ولقد كانت نتيجة هذا الدعاء ، الإجابة السريعة ، كما يشعر بذلك التعبير بالفاء في قوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ).
أى : فأجبنا لنوح دعاءه ، ففتحنا أبواب السماء بماء كثير منهمر ، أى : منصب على الأرض بقوة وبكثرة وتتابع. يقال : همر فلان الماء يهمر ـ بكسر الميم وضمها ـ إذا صبه بكثرة. وقراءة الجمهور (فَفَتَحْنا) بتخفيف التاء ، وقرأ ابن عامر بتشديدها على المبالغة.
قال الجمل : والمراد من الفتح والأبواب والسماء : حقائقها فإن للسماء أبوابا تفتح وتغلق. والباء في قوله : (بِماءٍ) للتعدية على المبالغة ، حيث جعل الماء كالآلة التي يفتح بها ، كما تقول : فتحت بالمفتاح .. (٢).
وقوله : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً ...) معطوف على قوله : (فَفَتَحْنا) وتفجير الماء : إسالته بقوة وشدة وكثرة ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٣٧.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٢٤٣.