وفي قوله ـ تعالى ـ : (مِنْ عِنْدِنا) تنويه عظيم بهذا الإنعام ، لأنه صادر من عنده ـ تعالى ـ الذي لا تعد ولا تحصى نعمه.
ثم بين ـ سبحانه ـ الأسباب التي أدت بقوم لوط إلى الدمار والهلاك فقال : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ ...).
والبطشة : المرة من البطش ، بمعنى الأخذ بعنف وقوة ، والمراد بها هنا : الإهلاك الشديد.
والتمارى : تفاعل من المراء بمعنى الجدال ، والمراد به هنا : التكذيب والاستهزاء ، ولذا عدى بالباء دون في. أى : والله لقد أنذرهم لوط ـ عليهالسلام ـ وخوفهم من عذابنا الشديد الذي لا يبقى ولا يذر ، ولكنهم كذبوه واستهزءوا به ، وبتهديده وبتخويفه إياهم.
ثم يحكى ـ سبحانه ـ صورة أخرى من فجورهم فقال : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ ، فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ، فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ).
والمراودة : مقابلة ، من راد فلان يرود ، إذا جاء وذهب ، لكي يصل إلى ما يريده من غيره عن طريق المحايلة والمخادعة.
والمراد بضيفه ضيوفه من الملائكة الذين جاءوا إلى لوط ـ عليهالسلام ـ لإخباره بإهلاك قومه ، وبأن موعدهم الصبح ... أى : والله لقد حاول هؤلاء الكفرة الفجرة المرة بعد المرة ، مع لوط ـ عليهالسلام ـ أن يمكنهم من فعل الفاحشة مع ضيوفه ...
فكانت نتيجة محاولاتهم القبيحة أن (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) أى حجبناها عن النظر ، فصاروا لا يرون شيئا أمامهم.
قال القرطبي : يروى أن جبريل ـ عليهالسلام ـ ضربهم بجناحه فعموا ، وقيل : صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شق. كما تطمس الريح الأعلام بما تسفى عليها من التراب. وقيل : طمس الله على أبصارهم فلم يروا الرسل (١).
وعدى ـ سبحانه ـ فعل المراودة بعن. لتضمينه معنى الإبعاد والدفع. أى : حاولوا دفعه عن ضيوفه ، ليتمكنوا منهم.
وأسند المراودة إليهم جميعا : لرضاهم عنها ، بقطع النظر عمن قام بها.
وقوله : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) مقول لقول محذوف ، أى طمسنا أعينهم وقلنا لهم : ذوقوا عذابي الشديد الذي سينزل بكم ، بسبب تكذيبكم لرسولي ، واستخفافكم بما وجه إليكم من تخويف وإنذار.
__________________
(١) راجع تفسير القرطبي ج ١٧ ص ١٤٤.