ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك مظاهر كمال قدرته وحكمته فقال : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ. وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ).
وقوله : (كُلَ) منصوب بفعل يفسره ما بعده ، والقدر : ما قدره الله ـ تعالى ـ على عباده ، حسب ما تقتضيه حكمته ومشيئته.
أى : إنا خلقنا كل شيء في هذا الكون ، بتقدير حكيم ، وبعلم شامل ، وبإرادة تامة وبتصريف دقيق لا مجال معه للعبث أو الاضطراب ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) ، وكما قال ـ سبحانه ـ : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ، وكما قال ـ عزوجل ـ : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً).
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : وقد استدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة ، على إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه بالأشياء قبل كونها. وردوا بهذه الآية وبما شاكلها ، وبما ورد في معناها من أحاديث على الفرقة القدرية ، الذين ظهروا في أواخر عصر الصحابة.
ومن ذلك ما أخرجه الإمام أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن أبى هريرة قال : جاء مشركوا قريش يخاصمون رسول الله صلىاللهعليهوسلم في القدر ، فنزلت : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).
والباء في قوله (بِقَدَرٍ) للملابسة. أى : خلقناه ملتبسا بتقدير حكيم ، اقتضته سنتنا ومشيئتنا في وقت لا يعلمه أحد سوانا ...
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) بيان لكمال قدرته ـ تعالى ـ.
واللمح : النظر السريع العاجل الذي لا تريث معه ولا انتظار ، يقال : لمح فلان الشيء إذا أبصره بنظر سريع ... وقوله : (واحِدَةٌ) صفة لموصوف محذوف.
أى : وما أمرنا وشأننا في خلق الأشياء وإيجادها ، إلا كلمة واحدة وهي قول : «كن» فتوجد هذه الأشياء كلمح البصر في السرعة.
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
والمراد بهذه الآية وأمثالها : بيان كمال قدرة الله ـ تعالى ـ وسرعة إيجاده لكل ما يريد
__________________
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٦٧.