وإنما هم دائما لا مبدأ لهم ولا عقيدة ، فهم كما قال ـ سبحانه ـ (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ...).
وفي الحديث الشريف : «مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين غنمين ـ أى المترددة بين قطيعين ـ لا تدرى أيهما تتبع».
قال الجمل : وقوله : (ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) فيه أوجه. أحدها : أن هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، فقد أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخلص ، ولا من الكافرين الخلص ، بل هم كقوله ـ تعالى ـ : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ ...).
والضمير في قوله (ما هُمْ) يعود على المنافقين ، وفي قوله (مِنْهُمْ) يعود على اليهود.
الثاني : أنها حال من فاعل «تولوا» والمعنى على ما تقدم.
الثالث : أنها صفة ثانية لقوله «قوما» ، وعليه يكون الضمير في قوله :
«ما هم» يعود على اليهود ، والضمير في قوله : «منهم» يعود على المنافقين.
يعنى : أن اليهود ليسوا منكم ـ أيها المؤمنون ـ ولا من المنافقين. ومع ذلك تولاهم «المنافقون» ... إلا أن في هذا الوجه تنافرا بين الضمائر ، فإن الضمير في «ويحلفون» عائد على المنافقين ، وعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر» (١).
ثم دمغهم ـ سبحانه ـ برذيلة ثالثة أشد نكرا من سابقتيها فقال : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).
أى : أنهم ينقلون إلى اليهود أسرار المؤمنين ، مع أنهم لا تربطهم باليهود أية رابطة ، لا من دين ولا من نسب ... وفضلا عن كل ذلك ، فإن هؤلاء المنافقين يواظبون ويستمرون على الحلف الكاذب المخالف للواقع ، والحال أنهم يعلمون أنهم كاذبون علما لا يخالطه شك أو ريب.
فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد ذم هؤلاء المنافقين. بجملة من الصفات القبيحة ، التي على رأسها تعمدهم الكذب ، وإصرارهم عليه.
قال صاحب الكشاف : «قوله : (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) أى : يقولون : والله إنا لمسلمون ، فيحلفون على الكذب الذي هو ادعاء الإسلام ، (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن المحلوف عليه كذب بحت.
فإن قلت : فما فائدة قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)؟ قلت : الكذب أن يكون لا على وفاق
__________________
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٣٠٧.