أى : أوصى بعضهم بعضا بهذا القول القبيح؟ كلا لم يوص بعضهم بعضا لأنهم لم يتلاقوا ، وإنما تشابهت قلوبهم ، فاتحدت ألسنتهم في هذا القول المنكر.
ثم تسلية ثالثة نراها في قوله ـ تعالى ـ : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) أى : فأعرض عنهم وعن جدالهم ، وسر في طريقك الذي رسمه الحكيم الخبير لك.
(فَما أَنْتَ) أيها الرسول الكريم ـ (بِمَلُومٍ) على الإعراض عنهم ، وما أنت بمعاتب منا على ترك مجادلتهم.
(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أى : أعرض عن هؤلاء المشركين ، وداوم على التذكير والتبشير والإنذار مهما تقول المتقولون ، فإن التذكير بما أوحيناه إليك من هدايات سامية ، وآداب حكيمة .. ينفع المؤمنين ، ولا ينفع غيرهم من الجاحدين.
ثم بين ـ سبحانه ـ الوظيفة التي من أجلها أوجد الله ـ تعالى ـ الجن والإنس فقال : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال منها : أن معناها : إنى ما أوجدت الجن والإنس إلا وهم مهيئون لعبادتي وطاعتي. بسبب ما ركبت فيهم من عقول تعقل ، وبسبب ما أرسلت إليهم من رسل يهدونهم إلى الخير ، فمنهم من أطاع الرسل ، وجرى على مقتضى ما تقتضيه الفطرة ، فآمن بالرسل ، واتبع الحق والرشد ، ففاز وسعد ، ومنهم من أعرض عن دعوة الرسل ، وعاند فطرته وموجب استعداده فخسر وخاب.
ومنهم من يرى أن معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليقروا لي بالعبودية طوعا أو كرها ، لأن المؤمن يطيع باختياره ، والكافر مذعن منقاد لقضاء ربه ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) (١).
ومنهم من يرى معناها : إنى ما خلقت الجن والإنس إلا ليعرفونى.
قال القرطبي ما ملخصه : قوله ـ تعالى ـ : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) قيل : إن هذا خاص فيمن سبق في علم الله أنه يعبده. فجاء بلفظ العموم ومعناه الخصوص .. فالآية في المؤمنين منهم.
وقال على ـ رضى الله عنه ـ : أى : وما خلقت الجن والإنس إلا لآمرهم بعبادتي قال ـ تعالى ـ (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ).
__________________
(١) سورة الرعد آية ١٥.