الأمر في قلوب السامعين ، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله وأسند إلى (أَنْ تَقُولُوا) ونصب (مَقْتاً) على التمييز ، للدلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه ، لفرط تمكن المقت منه. واختير لفظ المقت ، لأنه أشد البغض وأبلغه ، ومنه قيل : نكاح المقت ـ وهو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه ـ.
وإذا ثبت كبر مقته عند الله ، فقد تم كبره وشدته ، وانزاحت عنه الشكوك .. (١).
فأنت ترى أن الله ـ تعالى ـ قد ذم الذين يقولون ما لا يفعلون ذما شديدا ، ويندرج تحت هذا الذم ، الكذب في القول ، والخلف في الوعد ، وحب الشخص للثناء دون أن يكون قد قدم عملا يستحق من أجله الثناء.
وبعد أن وبخ ـ سبحانه ـ الذين يقولون ما لا يفعلون ، أتبع ذلك ببيان من يحبهم الله ـ تعالى ـ فقال : (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ).
ومحبة الله ـ تعالى ـ لشخص ، معناها : رضاه عنه ، وإكرامه له.
والصف يطلق على الأشياء التي تكون منتظمة في مظهرها ، متناسقة في أماكنها ، والمرصوص : هو المتلاصق الذي انضم بعضه إلى بعض. يقال : رصصت البناء ، إذا ألزقت بعضه ببعض حتى صار كالقطعة الواحدة.
والمعنى : أن الله ـ تعالى ـ يحب الذين يقاتلون في سبيل إعلاء دينه قتالا شديدا ، حتى لكأنهم في ثباتهم ، واجتماع كلمتهم ، وصدق يقينهم .. بنيان قد التصق بعضه ببعض ، فلا يستطيع أحد أن ينفذ من بين صفوفه.
فالمقصود بالآية الكريمة : الثناء على المجاهدين الصادقين ، الذين يثبتون أمام الأعداء وهم يقاتلونهم ، ثباتا لا اضطراب معه ولا تزلزل.
قال الإمام الرازي : أخبر الله ـ تعالى ـ أنه يحب من يثبت في الجهاد ، ويلزم مكانه ، كثبوت البناء المرصوص.
ويجوز أن يكون على أن يستوي أمرهم في حرب عدوهم ، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة ، وموالاة بعضهم بعضا ، كالبنيان المرصوص (٢).
__________________
(١) راجع تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٢٣.
(٢) راجع تفسير الفخر الرازي ج ٨ ص ١٣٩.