وقرئ. (ما كَذَبَ) ـ بالتشديد ـ ، أى : صدقه ولم يشك أنه جبريل بصورته (١).
ثم وبخ ـ سبحانه ـ المشركين على تكذيبهم للنبي صلىاللهعليهوسلم فيما يخبرهم عنه من شئون الوحى ، فقال : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى).
والمماراة : المجادلة والملاحاة بالباطل. يقال : مارى فلان فلانا مماراة ومراء ، إذا جادله ، مأخوذ من مرى الناقة يمريها. إذا مسح ضرعها ليستدر لبنها ، ويأخذه كاملا ، فشبه الجدال بذلك ، لأن كل واحد من المتجادلين يمرى ما عند صاحبه ، أى : يسعى لاستخراج كل ما عنده ، حتى يقيم الحجة عليه.
وعدى الفعل بعلى لتضمنه معنى المغالبة.
أى : أفتجادلون نبينا محمدا صلىاللهعليهوسلم فيما رآه بعينيه ، وتجادلونه في شيء هو تحقق منه بعقله وبصره ، وهو ملاقاته ورؤيته لأمين وحينا جبريل ـ عليهالسلام ـ؟ إن مجادلتكم له في ذلك ، هو من قبيل التعنت الواضح ، والجهل الفاضح ، لأنكم كذبتموه وجادلتموه في شيء هو قد رآه وتحقق منه ، وأنتم تعلمون أنه صادق أمين.
فالمقصود بالاستفهام تبكيتهم وتجهيلهم على جدالهم بالباطل.
هذا وقد ذكر العلماء ، أن هذه الآيات ، تشير إلى رؤية النبي صلىاللهعليهوسلم لجبريل ، على الهيئة التي خلقه الله ـ تعالى ـ عليها ، فقد كان جبريل يأتى النبي صلىاللهعليهوسلم في صورة آدمي ، فسأله أن يريه نفسه على صورته التي خلق عليها ، فأراه نفسه مرتين : مرة في الأرض وهي التي تشير إليها هذا الآيات ، ومرة في السماء ، وهي التي تشير إليها الآيات التالية.
وقد توسع الإمام ابن كثير في ذكر الأحاديث التي وردت في ذلك فقال ما ملخصه :
عن عبد الله بن مسعود ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين ، أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته ، فسد الأفق ، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ... (٢).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ..) إشارة إلى المرة الثانية التي رأى فيها الرسول صلىاللهعليهوسلم جبريل على هيئته التي خلقه الله ـ تعالى ـ عليها ، وكان ذلك في ليلة الإسراء والمعراج. أى : والله لقد رأى محمد صلىاللهعليهوسلم جبريل في صورته التي خلق عليها ، حالة كونه نازلا من السماء نزلة أخرى.
وقد جاء الإخبار عن هذه الرؤية بصيغة مؤكدة بلام القسم وبقد .. للرد على المشركين
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٩.
(٢) راجع ابن كثير تفسير ج ٤ ص ٢٤٧.