فقال : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ ، إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ...).
والظرف «إذ» متعلق بقوله (أَعْلَمُ) والأجنة : جمع جنين ، ويطلق على ما يكون بداخل الأرحام قبل خروجه منها.
وسمى بذلك ، لأنه يكون مستترا في داخل الرحم ، كما قال ـ تعالى ـ : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ..) (١).
أى : هو ـ سبحانه ـ أعلم بكم من وقت إنشائه إياكم من الأرض ، ضمن خلقه لأبيكم آدم ، ومن وقت أن كنتم أجنة في بطون أمهاتكم ، يعلم أطواركم فيها ، ويرعاكم برحمته ، إلى أن تنفصلوا عنها.
وقال ـ سبحانه ـ (فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) مع أن الجنين لا يكون إلا في بطن أمه ، للتذكير برعايته ـ تعالى ـ لهم ، وهم في تلك الأطوار المختلفة من وقت العلوق إلى حين الولادة ، وللحض على مداومة شكره وطاعته.
وقوله ـ تعالى ـ : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) تحذير من التفاخر بالأعمال والأحساب والأنساب ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يخفى عليه شيء من أحوال الناس ، والفاء للتفريع على ما تقدم. أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من عدم مؤاخذتى إياكم على اللمم ، فإن ذلك بسبب سعة رحمتي ، فلا تمدحوا أنفسكم بأنكم فعلتم كذا وكذا من الأفعال الحسنة ، بل اشكروني على سعة رحمتي ومغفرتي ، فإنى أنا العليم بسائر أحوالكم ، الخبير بالظواهر والبواطن للأتقياء والأشقياء.
قالوا : والآية نزلت في قوم من المؤمنين ، كانوا يعملون أعمالا حسنة ، ثم يتفاخرون بها.
قال صاحب الكشاف : قوله : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ...) أى فلا تنسبوها إلى زكاء العمل ، زيادة الخير. وعمل الطاعات ، أو إلى الزكاء والطهارة من المعاصي ، ولا تثنوا عليها واهضموها فقد علم الله الزكي منكم والتقى أولا وآخرا ، قبل أن يخرجكم من صلب آدم ، وقبل أن تخرجوا من بطون أمهاتكم.
وهذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء ، فأما من اعتقد أن ما عمله من العمل الصالح ، من الله وبتوفيقه وتأييده. ولم يقصد به التمدح ، لم يكن من المزكين لأنفسهم ، لأن المسرة بالطاعة طاعة ، وذكرها شكر لله ـ تعالى ـ (٢).
__________________
(١) سورة الزمر الآية ٦.
(٢) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٢٣.