وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) (١) فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية ، وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه ، وجملة قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) مستأنفة : أي فهو يغفر ، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وهذا على قراءة ابن عامر وعاصم. وأما على قراءة ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وحمزة ، والكسائي : بجزم الراء والباء ، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها ، وهو جواب الشرط : أعني قوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ). وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري : بنصب الراء والباء في قوله : (فَيَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ) على إضمار أن عطفا على المعنى. وقرأ طلحة بن مصرف : يغفر بغير فاء على البدل ، وبه قرأ الجعفي ، وخلاد.
وقد أخرج أحمد ومسلم ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلىاللهعليهوسلم : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية ، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فأتوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم جثوا على الركب ، فقالوا : يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ، بل قولوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢) فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) (٣) الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى آخرها. وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا نحوه ، وزاد فأنزل الله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٤) قال : قد فعلت (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) (٥) قال : قد فعلت (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٦) قال : قد فعلت (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) (٧) الآية ، قال : قد فعلت. وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس من طرق. وأخرج البخاري ، والبيهقي ، عن مروان الأصفر عن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم أحسبه ابن عمر (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) قال : نسختها الآية التي بعدها. وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي عن علي نحوه ، وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والطبراني عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير عن عائشة نحوه أيضا.
وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : نزلت في كتمان الشهادة فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة. وعلى كل حال فبعد هذه الأحاديث المصرّحة بالنسخ والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها ، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله تجاوز لي عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل به». وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت : كل عبد همّ بسوء ومعصية وحدّث نفسه به حاسبه الله في الدنيا ، يخاف ويحزن ، ويشتدّ همه ، لا يناله من ذلك شيء كما
__________________
(١). آل عمران : ٢٩.
(٢). البقرة : ٢٨٥.
(٣). البقرة : ٢٨٥.
(٤). البقرة : ٢٨٦.
(٥). البقرة : ٢٨٦.
(٦). البقرة : ٢٨٦.
(٧). البقرة : ٢٨٦.