المتشابه بما يقابلها. وبيان ذلك : أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل ، والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه ، ولا شك أن مفهوم المحكم والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه ، فإن مجرد الخفاء ، أو عدم الظهور ، أو الاحتمال ، أو التردّد يوجب التشابه ؛ وأهل القول الثاني : خضوا المحكم بما ليس فيه احتمال ، والمتشابه بما فيه احتمال ، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم والمتشابه ، لا كلها ؛ وهكذا أهل القول الثالث : فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعيّنة دون غيرها ؛ وأهل القول الرابع : خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث ، والأمر أوسع مما قالوه جميعا ؛ وأهل القول الخامس : خصوا المحكم بوصف عدم التصريف والتحريف ، وجعلوا المتشابه مقابله ، وأهملوا ما هو أهمّ من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف وتحريف كفواتح السور المقطعة ، وأهل القول السادس : خصوا المحكم : بما يقوم بنفسه ، والمتشابه : بما لا يقوم بها ، وأن هذا هو بعض أوصافهما ، وصاحب القول السابع وهو ابن خويز منداد ، عمد إلى صورة الوفاق فجعلها محكما ، وإلى صورة الخلاف والتعارض فجعلها متشابها ، فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى أو غير مفهوم. قوله : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) أي : أصله الذي يعتمد عليه ، ويردّ ما خالفه إليه ، وهذه الجملة صفة لما قبلها. قوله : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) وصف لمحذوف مقدر ، أي : وآيات أخر متشابهات وهي جمع أخرى ، وإنما لم ينصرف لأنه عدل بها عن الآخر ، لأن أصلها أن يكون كذلك. وقال أبو عبيد : لم ينصرف لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة ، وأنكر ذلك المبرّد. وقال الكسائي : لم تنصرف لأنها صفة ، وأنكره أيضا المبرّد. وقال سيبويه : لا يجوز أن يكون أخر : معدولة عن الألف واللام ، لأنها لو كانت معدولة عنها لكان معرفة ، ألا ترى أن سحر معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة. قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الزيغ : الميل ، ومنه : زاغت الشمس ، وزاغت الأبصار ؛ ويقال : زاغ يزيغ زيغا ، إذا ترك القصد ، ومنه قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١) وهذه الآية تعمّ كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق. وسبب النزول : نصارى نجران كما تقدّم ، وسيأتي. قوله : (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) أي : يتعلقون بالمتشابه من الكتاب ، فيشككون به على المؤمنين ، ويجعلونه دليلا على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق ، كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة ، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعبا شديدا ، ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء. قوله : (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي : طلبا منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبيس عليهم وإفساد ذات بينهم (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) أي : طلبا لتأويله على الوجه الذي يريدونه ويوافق مذاهبهم الفاسدة. قال الزجاج : معنى ابتغائهم تأويله : أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم ، فأعلم الله عزوجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله. قال : والدليل على ذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) (٢) أي : يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب (يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ) أي : تركوه (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) (٣) أي : قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) التأويل يكون بمعنى التفسير ، كقولهم : تأويل هذه الكلمة على كذا ، أي : تفسيرها ، ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه ، واشتقاقه من : آل الأمر
__________________
(١). الصف : ٥.
(٢). الأعراف : ٥٣.
(٣). الأعراف : ٥٣.