اللغة ، فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ، ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم. انتهى.
واعلم أن هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه ، وقد قدّمنا لك ما هو الصواب في تحقيقهما ، ونزيدك هاهنا إيضاحا وبيانا ، فنقول : إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدّمناه فواتح السور ، فإنها غير متضحة المعنى ، ولا ظاهرة الدلالة ، لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ، ويعرف عرف الشرع ما معنى الم ، المر ، حم ، طس ، طسم ونحوها ، لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ولا من كلام الشرع ، فهي غير متضحة المعنى ، لا باعتبارها نفسها ، ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها ، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم ، والألفاظ الغريبة التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها ، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح وما في قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١) إلى الآخر الآية ، ونحو ذلك وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره ، كورود الشيء محتملا لأمرين احتمالا لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك في نفسه ، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة ، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضا كليا بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر ، لا باعتبار نفسه ولا باعتبار أمر آخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه ، بأن يكون معروفا في لغة العرب ، أو في عرف الشرع ، أو باعتبار غيره ، وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانها في موضع آخر من الكتاب العزيز ، أو في السنة المطهرة ، أو الأمور التي تعارضت دلالتها ، ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة ، أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة ، عند أهل الإنصاف ، فلا شك ولا ريب أن هذه من المحكم لا من المتشابه ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب ، فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام ، حتى صارت كل طائفة تسمي ما دل لما ذهب إليه : محكما وما دل على ما يذهب إليه من يخالفها : متشابها : سيما أهل علم الكلام ، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم.
واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم ، ولكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية ، بل بمعنى آخر ، ومن ذلك قوله تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) (٢) وقوله : (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (٣) والمراد بالمحكم بهذا المعنى : أنه صحيح الألفاظ ، قويم المعاني ، فائق في البلاغة ، والفصاحة على كل كلام. وورد أيضا ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ، بل بمعنى آخر ، ومنه قوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً) (٤) والمراد بالتشابه بهذا المعنى : أنه يشبه بعضه بعضا في الصحة ، والفصاحة ، والحسن ، والبلاغة. وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد ، منها : أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ومشقة ، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق وهم الأئمة المجتهدون ، وقد ذكر الزمخشري والرازي وغيرهما وجوها هذا أحسنها ، وبقيتها لا تستحق الذكر هاهنا. قوله : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم والمتشابه ، أي : كله ، أو المحذوف
__________________
(١). لقمان : ٣٤.
(٢). هود : ١.
(٣). يونس : ١.
(٤). الزمر : ٢٣.