أن العرب لا تذكر حالا إلّا مع ظهور الفعل ، إلى آخر كلامه ، لا يتم إلّا على فرض أنه لا فعل هنا ، وليس الأمر كذلك ، فالفعل مذكور ، وهو قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) ولكنه جاء الحال من المعطوف ، وهو قوله : (وَالرَّاسِخُونَ) دون المعطوف عليه ، وهو قوله : (إِلَّا اللهُ) وذلك جائز في اللغة العربية. وقد جاء مثله في الكتاب العزيز. ومنه قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) (١) إلى قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا) (٢) الآية ، وكقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (٣) أي : وجاءت الملائكة صفا صفا ، ولكن هاهنا مانع آخر من جعل ذلك حالا ، وهو : أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح ، فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الاسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال لا في هذه الحالة الخاصة ، فاقتضى هذا أن جعل قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حالا ، غير صحيح ، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مبتدأ ، خبره : (يَقُولُونَ) ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف : أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ مدحهم بالرسوخ في العلم ، فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك؟ ويجاب عن هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ، ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلا هو من رسوخهم ، لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه ، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ ، وناهيك بهذا من رسوخ. وأصل الرسوخ في لغة العرب : الثبوت في الشيء ، وكل ثابت راسخ ، وأصله في الأجرام : أن ترسخ الخيل ، أو الشجر في الأرض ، ومنه قول الشاعر :
لقد رسخت في الصّدر منّي موّدة |
|
لليلى أبت آياتها أن تغيّرا |
فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم عن الله من ترك اتباع المتشابه ، وإرجاع علمه إلى الله سبحانه. ومن أهل العلم من توسط بين المقامين فقال : التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان : أحدهما : التأويل بمعنى : حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه ، ومنه قوله : (هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ) (٤) ، وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) (٥) أي : حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد ، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة ، لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه إلّا الله عزوجل ، ويكون قوله : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) مبتدأ ، و (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) أي : بتفسيره ، فالوقف على : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا فيكون : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) حالا منهم ، ورجح ابن فورك : أن الراسخين يعلمون تأويله ، وأطنب في ذلك ، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك. قال القرطبي : قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر : وهو الصحيح ، فإن تسميتهم : راسخين ، تقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب ، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلّا ما يعلم الجميع ، لكن المتشابه يتنوع ؛ فمنه ما لا يعلم ألبتة ، كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه ، وهذا لا يتعاطى علمه أحد ؛ فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع. وأما ما يمكن حمله على وجوه في
__________________
(١). الحشر : ٨.
(٢). الحشر : ١٠.
(٣). الفجر : ٢٢.
(٤). يوسف : ١٠٠.
(٥). الأعراف : ٥٣.