يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما ، فنفاه على حدّ عظمه لو كان ثابتا. قوله : (الَّذِينَ قالُوا) هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين قالوا : وقيل : نعت للعبيد ، وقيل : منصوب على الذم ؛ وقيل : هو في محل جر بدل من (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) ، وهو ضعيف ، لأن البدل هو المقصود دون المبدل منه ، وليس الأمر كذلك هنا ، والقائلون هؤلاء : هم جماعة من اليهود كما سيأتي ، وهذا المقول : وهو أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بالقربان ، هو من جملة دعاويهم الباطلة. وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقربون القربان ، فيقوم النبي فيدعو ، فتنزل نار من السماء فتحرقه ، ولم يتعبد الله بذلك كل أنبيائه ، ولا جعله دليلا على صدق دعوى النبوة ، ولهذا رد الله عليهم فقال : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كيحيى بن زكريا ، وشعياء ، وسائر من قتلوا من الأنبياء. والقربان : ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح ، وهو فعلان من القربة. ثم سلى الله رسوله صلىاللهعليهوسلم بقوله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ) بمثل ما جئت به من البينات. والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب ، وقد تقدم تفسيره (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) : الواضح الجلي المضيء ، يقال : نار الشيء ، وأنار ، ونوره ، واستناره ، بمعنى.
وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر بيت المدارس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر! ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا ؛ فغضب أبو بكر ، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده : لو لا العهد الذي بيننا وبينكم ، لضربت عنقك يا عدو الله! فذهب فنحاص إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : يا محمد! انظر ما صنع صاحبك بي ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله! قال قولا عظيما ، يزعم : أن الله فقير ، وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك ، غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه ، فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك ، فأنزل الله فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) الآية ، ونزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) (١) الآية. وقد أخرج هذه القصة ابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة ، وأخرجها ابن جرير عن السدي بأخصر من ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود محمدا صلىاللهعليهوسلم حين أنزل الله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (٢) فقالوا : يا محمد! أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة : أن القائل لهذه المقالة حيي بن أخطب وأنها نزلت فيه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن العلاء بن بدر أنه سئل عن قوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) وهم لم يدركوا
__________________
(١). آل عمران : ١٨٦.
(٢). البقرة : ٢٤٥.