وبمعنى الرفع ، ومنه (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي) و (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) (١). (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) أصل المراقبة : المراعاة ، أي كنت الحافظ لهم. والعالم بهم والشاهد عليهم (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) تصنع بهم ما شئت وتحكم فيهم بما تريد (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي القادر على ذلك الحكيم في أفعاله ، قيل : قاله على وجه الاستعطاف كما يستعطف السيد لعبده. ولهذا لم يقل إن تعذبهم فإنهم عصوك ؛ وقيل : قاله على وجه التسليم لأمر الله والانقياد له ، ولهذا عدل عن الغفور الرحيم إلى العزيز الحكيم. قوله : (قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ) أي صدقهم في الدنيا ، وقيل في الآخرة ، والأوّل أولى. قرأ نافع وابن محيصن يوم بالنصب ، وقرأ الباقون بالرفع ، فوجه النصب أنه ظرف للقول : أي قال الله هذا القول يوم ينفع الصادقين ، ووجه الرفع أنه خبر للمبتدأ هذا وما أضيف إليه (٢). وقال الكسائي نصب يوم هاهنا لأنه مضاف إلى الجملة ، وأنشد :
على حين عاتبت المشيب على الصّبا |
|
وقلت ألمّا أصح والشّيب وازع |
وبه قال الزجاج ، ولا يجيز البصريون ما قالاه إلا إذا أضيف الظرف إلى فعل ماض. وقرأ الأعمش (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) بتنوين يوم كما في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) (٣) فكلاهما مقطوع عن الإضافة بالتنوين. وقد تقدّم تفسير قوله : (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً). قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي رضي عنهم بما عملوه من الطاعات الخالصة له ، ورضوا عنه بما جازاهم به مما لا يخطر لهم على بال ولا تتصوره عقولهم ، والرضا منه سبحانه هو أرفع درجات النعيم وأعلى منازل الكرامة ، والإشارة بذلك إلى نيل ما نالوه من دخول الجنة والخلود فيها أبدا ، ورضوان الله عنهم. والفوز : الظفر بالمطلوب على أتمّ الأحوال. قوله : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) جاء سبحانه بهذه الخاتمة دفعا لما سبق من إثبات من أثبت إلهية عيسى وأمه ، وأخبر بأن ملك السموات والأرض له دون عيسى وأمه ودون سائر مخلوقاته ، وأنه القادر على كلّ شيء دون غيره ، وقيل المعنى : أن له ملك السموات والأرض يعطي الجنات للمطيعين ، جعلنا الله منهم.
وقد أخرج الترمذي وصحّحه والنسائي وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة قال : تلقّى عيسى حجّته والله لقّاه في قوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) قال أبو هريرة عن النبيّ صلىاللهعليهوسلم فلقّاه الله سبحانه (ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) الآية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : يقول الله هذا يوم القيامة ، ألا ترى أنه يقول : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السديّ قال : قال الله ذلك لما رفع عيسى إليه ، وقالت النصارى ما قالت. وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس في
__________________
(١). آل عمران : ٥٥.
(٢). الضمير في إليه : يعود على يوم.
(٣). البقرة : ٤٨.