فيدخل تحت ذلك ظلمة الكفر ونور الإيمان (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) (١) وأفرد النور لأنه جنس يشمل جميع أنواعه ، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها وتعدد أنواعها. قال النحاس : جعل هنا بمعنى خلق : وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعدّ إلا إلى مفعول واحد. وقال القرطبي : جعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره. قال ابن عطية : وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق ، فيكون الجمع معطوفا على الجمع ، والمفرد معطوفا على المفرد ، وتقديم الظلمات على النور لأنها الأصل ، ولهذا كان النهار مسلوخا من الليل. قوله : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) معطوف على الحمد لله ، أو على خلق السماوات والأرض ، وثم : لاستبعاد ما صنعه الكفار من كونهم بربهم يعدلون مع ما تبين من أن الله سبحانه حقيق بالحمد على خلقه السماوات والأرض والظلمات والنور ، فإن هذا يقتضي الإيمان به وصرف الثناء الحسن إليه ، لا الكفر به واتّخاذ شريك له ، وتقديم المفعول للاهتمام ، ورعاية الفواصل ، وحذف المفعول لظهوره ؛ أي يعدلون به ما لا يقدر على شيء مما يقدر عليه ، وهذا نهاية الحمق وغاية الرقاعة حيث يكون منه سبحانه تلك النعم ، ويكون من الكفرة الكفر. قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) في معناه قولان : أحدهما وهو الأشهر ، وبه قال الجمهور : أن المراد آدم عليهالسلام ، وأخرجه مخرج الخطاب للجميع ، لأنهم ولده ونسله. الثاني : أن يكون المراد جميع البشر باعتبار أن النطفة التي خلقوا منها مخلوقة من الطين ، ذكر الله سبحانه خلق آدم وبنيه بعد خلق السماوات والأرض اتباعا للعالم الأصغر بالعالم الأكبر ، والمطلوب بذكر هذه الأمور دفع كفر الكافرين بالبعث وردّ لجحودهم بما هو مشاهد لهم لا يمترون فيه. قوله : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) جاء بكلمة (ثُمَ) لما بين خلقهم وبين موتهم من التفاوت.
وقد اختلف السلف ومن بعدهم في تفسير الأجلين ، فقيل : (قَضى أَجَلاً) يعني الموت (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) يعني القيامة ، وهو مروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك ومجاهد وعكرمة وزيد بن أسلم وعطية والسدي وخصيف ومقاتل وغيرهم ، وقيل : الأوّل ما بين أن يخلق إلى أن يموت ؛ والثاني ما بين أن يموت إلى أن يبعث ، وهو قريب من الأوّل. وقيل : الأوّل مدّة الدنيا ؛ والثاني عمر الإنسان إلى حين موته. وهو مرويّ عن ابن عباس ومجاهد. وقيل : الأوّل قبض الأرواح في النوم ؛ والثاني : قبض الروح عند الموت. وقيل : الأوّل ما يعرف من أوقات الأهلة والبروج وما يشبه ذلك ؛ والثاني أجل الموت. وقيل : الأوّل لمن مضى ؛ والثاني لمن بقي ولمن يأتي. وقيل : إن الأوّل الأجل الذي هو محتوم ؛ والثاني : لزيادة في العمر لمن وصل رحمه ، فإن كان برّا تقيا وصولا لرحمه زيد في عمره ، وإن كان قاطعا للرحم لم يزد له ، ويرشد إلى هذا قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) (٢). وقد صحّ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن صلة الرحم تزيد في العمر ، وورد عنه أن دخول البلاد التي قد فشا بها الطاعون والوباء من أسباب الموت ؛ وجاز الابتداء بالنكرة في قوله : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) لأنها قد تخصصت بالصفة. قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) استبعاد لصدور الشّكّ منهم مع وجود المقتضى لعدمه : أي كيف تشكّون في البعث مع مشاهدتكم في أنفسكم من الابتداء والانتهاء ما يذهب بذلك ويدفعه ، فإن من خلقكم من طين ،
__________________
(١). الأنعام : ١٢٢.
(٢). فاطر : ١١.