التدبير في الأمر في خفية ، والمعنى : أنهم يخفون ما يعدّونه لرسول الله صلىاللهعليهوسلم من المكايد ، فيجازيهم الله على ذلك ، ويردّ كيدهم في نحورهم ، وسمى ما يقع منه تعالى : مكرا ، مشاكلة كما في نظائره (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي : المجازين لمكر الماكرين بمثل فعلهم ، فهو يعذبهم على مكرهم من حيث لا يشعرون ، فيكون ذلك أشدّ ضررا عليهم وأعظم بلاء من مكرهم. قوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) أي التي تأتيهم بها وتتلوها عليهم (قالُوا) تعنتا وتمردا وبعدا عن الحق (قَدْ سَمِعْنا) ما تتلوه علينا (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) الذي تلوته علينا ، قيل : إنهم قالوا هذا توهما منهم أنهم يقدرون على ذلك ، فلما راموا أن يقولوا مثله عجزوا عنه ، ثم قال عنادا وتمرّدا : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي : ما يستطره الوراقون من أخبار الأوّلين ، وقد تقدّم بيانه مستوفى (وَإِذْ قالُوا) أي : واذكر إذ قالوا (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) بنصب الحقّ على أنه خبر كان ، والضمير للفصل ، ويجوز الرفع ، قال الزجّاج : ولا أعلم أحدا قرأ بها ، ولا اختلاف بين النّحويين في إجازتها ، ولكن القراءة سنة ، والمعنى : إن كان القرآن الذي جاءنا به محمد هو الحق (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا) قالوا هذه المقالة مبالغة في الجحود والإنكار. قال أبو عبيدة : يقال : أمطر : في العذاب ، ومطر : في الرحمة. وقال في الكشاف : قد كثر الإمطار في معنى العذاب (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) سألوا أن يعذبوا بالرجم بالحجارة من السماء أو بغيرها من أنواع العذاب الشديد ، فأجاب الله عليهم بقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ) يا محمد (فِيهِمْ) موجود فإنك ما دمت فيهم فهم في مهلة من العذاب الذي هو الاستئصال (وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) روي أنهم كانوا يقولون في الطواف غفرانك ، أي : وما كان الله معذبهم في حال كونهم يستغفرونه ؛ وقيل : المعنى : لو كانوا ممن يؤمن بالله ويستغفره لم يعذبهم ، وقيل : إنّ الاستغفار راجع إلى المسلمين الذين هم بين أظهرهم ، أي : وما كان الله ليعذبهم وفيهم من يستغفر من المسلمين ، فلما خرجوا من بين أظهرهم عذبهم بيوم بدر وما بعده ؛ وقيل : المعنى : وما كان الله معذّبهم وفي أصلابهم من يستغفر الله.
وقد أخرج عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل ، والخطيب عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : تشاورت قريش ليلة بمكة ، فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق ، يريدون النبي صلىاللهعليهوسلم ، وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل أخرجوه ، فأطلع الله نبيه على ذلك ، فبات عليّ على فراش النبي صلىاللهعليهوسلم حتى لحق بالغار ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوه عليا ردّ الله مكرهم فقالوا : أين صاحبك هذا؟ فقال : لا أدري ، فاقتصّوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل ، فمرّوا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم والبيهقي عن ابن عباس فذكر القصة بأطول مما هنا. وفيها ذكر الشيخ النجدي ؛ أي : إبليس ومشورته عليهم عند اجتماعهم في دار الندوة للمشاورة في أمر النبي صلىاللهعليهوسلم ، وأن أبا جهل أشار بأن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش غلاما ويعطوا كل واحد منهم سيفا ثم