الحق الذي لا دين غيره ، فأعلموا أني بريء من أديانكم التي أنتم عليها (فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) في حال من الأحوال (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) أي : خصّه بالعبادة لا أعبد غيره من معبوداتكم من الأصنام وغيرها ، وخصّ صفة المتوفّى من بين الصّفات : لما في ذلك من التّهديد لهم ؛ أي : أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد ، ولكونه يدل على الخلق : أوّلا ، وعلى الإعادة : ثانيا ، ولكونه أشدّ الأحوال مهابة في القلوب ، ولكونه قد تقدّم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالكفار من الأمم السابقة ، فكأنه قال : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان فقال : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي : بأن أكون من جنس من آمن بالله وأخلص له الدين ، وجملة : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) معطوفة على جملة (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ولا يمنع من ذلك كون المعطوف بصيغة الأمر لأن المقصود من (إِنْ) الدلالة على المصدر ، وذلك لا يختلف بالخبرية والإنشائية ، أو يكون المعطوف عليه في معنى الإنشاء ؛ كأنه قيل : كن مؤمنا ثم أقم ؛ والمعنى : أن الله سبحانه أمره بالاستقامة في الدين والثبات فيه ، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال. وخص الوجه : لأنه أشرف الأعضاء ، أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة ، وعدم التحوّل عنها. وحنيفا : حال من الدين ، أو من الوجه ، أي : مائلا عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام. ثم أكد الأمر المتقدّم للنهي عن ضدّه فقال : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو معطوف على أقم ، وهو من باب التعريض لغيره صلىاللهعليهوسلم. قوله : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ) معطوف على (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) غير داخل تحت الأمر ، وقيل : معطوف على : (وَلا تَكُونَنَ) أي : لا تدع من دون الله على حال من الأحوال ما لا ينفعك ولا يضرّك بشيء من النفع والضرّ إن دعوته ، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعا ، ولا يقدر على ضرّ ، ضائع لا يفعله عاقل على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضرّ غيره ؛ فكيف إذا كان موجودا؟ فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأقبح (فَإِنْ فَعَلْتَ) أي : فإن دعوت ، ولكنه كنى عن القول بالفعل (فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) هذا جزاء الشرط ؛ أي : فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك فإنك في عداد الظالمين لأنفسهم ، والمقصود من هذا الخطاب التعريض بغيره صلىاللهعليهوسلم ، وجملة (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ) إلى آخرها مقرّرة لمضمون ما قبلها. والمعنى أن الله سبحانه هو الضار النافع ، فإن أنزل بعبده ضرا لم يستطع أحد أن يكشفه كائنا من كان ، بل هو المختص بكشفه كما اختصّ بإنزاله (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) أيّ خير كان ، لم يستطع أحد أن يدفعه عنك ، ويحول بينك وبنيه كائنا من كان ، وعبر بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى أنه يتفضل على عباده بما لا يستحقون بأعمالهم. قال الواحدي : إن قوله (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ) هو من القلب ، وأصله وإن يرد بك الخير ، ولكن لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز أن يكون كل واحد منهما مكان الآخر. قال النيسابوري : وفي تخصيص الإرادة بجانب الخير ، والمسّ بجانب الشرّ دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات ، والشرّ بالعرض. قلت : وفي هذا نظر فإن المسّ هو أمر وراء الإرادة فهو مستلزم لها ، والضمير في يصيب به راجع إلى فضله ، أي : يصيب بفضله من يشاء من عباده ، وجملة : (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) تذييلية. ثم ختم هذه السورة