هذه الجملة متصلة بجملة محذوفة دلّ عليها الأمر بالركوب ، والتقدير : فركبوا مسمين وهي تجري بهم ، والموج : جمع موجة ، وهي : ما ارتفع عن جملة الماء الكثير عند اشتداد الريح ، وشبهها بالجبال المرتفعة على الأرض. قوله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) هو كنعان ، قيل : وكان كافرا ، واستبعد كون نوح ينادي من كان كافرا مع قوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) (١) ؛ وأجيب بأنه كان منافقا فظنّ نوح أنه مؤمن ؛ وقيل : حملته شفقة الأبوّة على ذلك ؛ وقيل : إنه كان ابن امرأته ولم يكن بابنه ، ويؤيده ما روي أن عليا قرأ : ونادى نوح ابنها ؛ وقيل : إنه كان لغير رشدة ، وولد على فراش نوح. وردّ بأن قوله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) ، وقوله : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) يدفع ذلك على ما فيه من عدم صيانة منصب النبوّة (وَكانَ فِي مَعْزِلٍ) أي : في مكان عزل فيه نفسه عن قومه وقرابته بحيث لم يبلغه قول نوح : (ارْكَبُوا فِيها) ، وقيل : في معزل من دين أبيه ، وقيل : من السفينة ، قيل : وكان هذا النداء قبل أن يستيقن الناس الغرق ، بل كان في أوّل فور التنور. قوله : (يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا) قرأ عاصم بفتح الياء ، والباقون بكسرها ، فأما الكسر : فلجعله بدلا من ياء الإضافة ، لأن الأصل يا بنيّ ، وأما الفتح : فلقلب ياء الإضافة ألفا لخفة الألف ، ثم حذف وبقيت الفتحة لتدلّ عليه. قال النحّاس : وقراءة عاصم مشكلة. وقال أبو حاتم : أصله يا بنياه ثم تحذف ، وقد جعل الزجاج للفتح وجهين ، وللكسر وجهين. أما الفتح بالوجه الأوّل : ما ذكرناه ، والوجه الثاني : أن تحذف الألف لالتقاء الساكنين. وأما الكسر فالوجه الأوّل : ما ذكرناه ، والثاني : أن تحذف لالتقاء الساكنين ، كذا حكى عنه النحاس. وقرأ أبو عمرو ، والكسائي ، وحفص : (ارْكَبْ مَعَنا) بإدغام الباء في الميم لتقاربهما في المخرج. وقرأ الباقون بعد الإدغام (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) نهاه عن الكون مع الكافرين ، أي : خارج السفينة ، ويمكن أن يراد بالكون معهم : الكون على دينهم ، ثم حكى الله سبحانه ما أجاب به ابن نوح على أبيه فقال : (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) أي : يمنعني بارتفاعه من وصول الماء إليّ ، فأجاب عنه نوح بقوله : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي : لا مانع فإنه يوم قد حقّ فيه العذاب وجفّ القلم بما هو كائن فيه ، نفى جنس العاصم فيندرج تحته العاصم من الغرق في ذلك اليوم اندراجا أوّليا ، وعبر عن الماء أو عن الغرق بأمر الله سبحانه : تفخيما لشأنه وتهويلا لأمره. والاستثناء : قال الزجاج : هو منقطع ، أي : لكن من رحمهالله فهو يعصمه ، فيكون (مَنْ رَحِمَ) في موضع نصب ، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا على أن يكون عاصم بمعنى معصوم ، أي : لا معصوم اليوم من أمر الله إلّا من رحمهالله : مثل (ماءٍ دافِقٍ) (٢) ـ و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٣) ومنه قول الشاعر :
دع المكارم لا تنهض لبغيتها |
|
واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي |
أي : المطعم المكسوّ ، واختار هذا الوجه ابن جرير ؛ وقيل : العاصم بمعنى ذي العصمة ، كلابن وتامر ، والتقدير : لا عاصم قط إلا مكان من رحم الله ، وهو : السفينة ، وحينئذ فلا يرد ما يقال : إن معنى من رحم ، من رحمهالله ، ومن رحمهالله : هو معصوم ، فكيف يصحّ استثناؤه عن العاصم؟ لأن في كل وجه من هذه الوجوه دفعا للإشكال. وقرئ : إلا من رحم على البناء للمفعول (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ)
__________________
(١). نوح : ٢٦.
(٢). الطارق : ٦.
(٣). الحاقة : ٢١.