هذه الفنون التي أخذتها الملة الإسلامية منه ، وقد احتوى على علوم أخر من علوم الأوائل مثل الطب ، والجدل ، والهيئة ، والهندسة ، والجبر والمقابلة ، والنجامة ، وغير ذلك.
أما الطب فمداره على حفظ نظام الصحة ، واستحكام القوة ، وذلك إنما يكون باعتدال المزاج تبعا على الكيفيات المتضادة ، وقد جمع ذلك في آية واحدة وهي قوله : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)(١) ، وعرفنا فيه بما يعيد نظام الصحة بعد اختلاله وحدوث الشفاء للبدن بعد اعتلاله في قوله : (شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ)(٢) ، ثم زاد على طب الأجساد بطب القلوب وشفاء الصدور.
وأما الهيئة ففي تضاعيف سوره من الآيات التي ذكر فيها من ملكوت السموات والأرض ، وما بث في العالم العلوي والسفلي من المخلوقات.
وأما الهندسة ففي قوله : (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ)(٣) فإن فيه قاعدة هندسية وهو أن الشكل المثلث لا ظل له.
وأما الجدل فقد حوت آياته من البراهين والمقدمات والنتائج والقول بالموجب والمعارضة وغير ذلك شيئا كثيرا ، ومناظرة إبراهيم أصل في ذلك عظيم.
وأما الجبر والمقابلة فقد قيل إن أوائل السور ذكر مدد وأعوام وأيام لتواريخ أمم سالفة ، وأن فيها تاريخ بقاء هذه الأمة وتاريخ مدة الدنيا وما مضى وما بقي مضروب بعضها في بعض.
__________________
(١) سورة الفرقان : ٦٧. والقوام : العدل.
(٢) سورة النحل : ٦٩.
(٣) سورة المرسلات : ٣٠. قال القاضي البيضاوي ـ رحمهالله ـ في (أنوار التنزيل) في قوله تعالى : (إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) : «يعني ظل دخان جهنم كقوله تعالى : (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) .. يتشعّب لعظمه ، كما ترى الدخان العظيم يتفرّق ذوائب ..»
قلت : فإن ذهاب من ذهب إلى استخراج علم الهندسة. من هذه الآية الكريمة .. ضرب من التزيّد ، وتحميل كلام الله ما لا ينبغي ولا يحتمل.
قلت : وكذلك سائر الاستخراجات التي أوردها المصنف ـ رحمهالله ـ في هذه المقدمة ، أو أكثرها ، مما لا يحتمل هذا الذي حمّل من الاستنباطات التي توحي بأن كتاب الله قد جمع أصول العلوم والفنون والمعارف كافة .. والله يشهد أنّ هذا تعنّت لم تسبق امة الدين الحنيف إليه.