زيادة فيه ولا نقصان منه ، وإلى عالم الجبروت وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون في الظاهر من عالم الملك فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت ، والإنسان كذلك ينقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم ، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة والقدرة ، وإلى ما هو مشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن.
فإن قيل : لم جمع جمع قلة مع أنّ المقام يستدعي الإتيان بجمع الكثرة أجيب : بأنّ فيه تنبيها على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه تعالى.
(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة من أسمائه خمسة : الله ، والرب ، والرحمن ، والرحيم ، والمالك ، والسبب فيه كأنه يقول : خلقتك أوّلا فأنا الله ثم ربيتك بوجود النعمة ، فأنا رب ثم عصيت فسترت عليك ، فأنا رحمن ثم تبت عليك ، فأنا رحيم ، ثم لا بدّ من إيصال الجزاء إليك ، فأنا مالك يوم الدين.
فإن قيل : إنه تعالى ذكر الرحمن الرحيم في التسمية ثم ذكرهما مرّة ثانية دون الأسماء الثلاثة الباقية ، فما الحكمة في ذلك؟ أجيب : بأنّ الحكمة في ذلك كأنه قال تعالى : اذكر أني إله ورب مرّة واحدة واذكر أني رحمن رحيم مرّتين ليعلم أنّ العناية بالرحمة أكثر منه بسائر الأمور ، ثم لما بين الرحمة المضاعفة فكأنه قال : لا تغتروا بذلك فإني مالك يوم الدين ونظيره ، قوله تعالى : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) [غافر ، ٣] وقرأ عاصم والكسائيّ : مالك بألف بعد الميم ، ويعضده قوله تعالى : (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ، ١٩] وقرأ الباقون بغير ألف ، ويعضده قوله تعالى : (مَلِكِ النَّاسِ) [الناس ، ٢] وبينهما عموم مطلق فكل ملك مالك ولا عكس لعموم ولاية الملك التزاما لا مطابقة ولا يقدح فيها أن تقول مالك الدواب والأنعام والوحوش والطير دون ملكها لأنّ ذلك ليس من جهة عدم شمول حياطته لذلك ، بل من جهة أنه إنما يضاف عرفا إلى ما فيه انقياد وامتثال وينفذ فيه التصرف بالأمر والنهي ، قاله السعد التفتازاني ، وقيل : هما بمعنى وهو القادر على اختراع الأعيان من العدم إلى الوجود ولا يقدر على ذلك إلا الله ويوم الدين يوم الجزاء ومنه قولهم : كما تدين تدان وهو يوم القيامة وخص بالذكر لأنه لا ملك ظاهر فيه لأحد إلا لله تعالى (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) [غافر ، ١٦].
فإن قيل : إضافة اسم الفاعل غير حقيقية فلا تكون معطية معنى التعريف فكيف ساغ وقوعه صفة للمعرفة؟ أجيب : بأنها إنما تكون غير حقيقية إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال فكان في تقدير الانفصال كقولك : مالك الساعة أو غدا فأما إذا قصد به معنى الاستمرار أي : هو موصوف بذلك دائما فتكون الإضافة حقيقية كغافر الذنب فصح وقوعه صفة للمعرفة.
فإن قيل : التقييد بيوم الدين ينافي الاستمرار لكونه صريحا في الاستقبال ، أجيب : بأنّ معناه الثبوت والاستمرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنسبة إلى يوم الدين كأنه قيل : هو ثابت المالكية في يوم الدين أو المراد أنه جعل يوم الدين لتحقق وقوعه بمنزلة الواقع فتستمرّ مالكيته في جميع الأزمنة.
تنبيه : إجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه ربا للعالمين موجدا لهم منعما عليهم بالنعم ، كلها ظاهرها وباطنها عاجلها وآجلها مالكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب للدلالة على أنه تعالى الحقيق بالحمد لا أحد أحق به منه بل لا يستحقه على الحقيقة سواه ، فإن ترتب الحكم على الوصف يشعر بعليته له.