(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) إيا ضمير منصوب منفصل وما يلحقه من الياء والكاف والهاء حروف زيدت لبيان التكلم والخطاب والغيبة لا محل لها من الإعراب وفيه أقوال أخر ذكرتها في «شرح القطر».
فإن قيل : لم كرر ضمير إياك؟ أجيب : بأنه كرر للتنصيص على أنه المستعان به لا غيره.
فإن قيل : لم قدّمت العبادة على الاستعانة ، أجيب : لتتوافق رؤوس الآي وليعلم منه أن تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأيضا لما نسب المتكلم العبادة إلى نفسه أوهم ذلك فرحا واعترافا منه بما يصدر عنه فعقبه بقوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ليدل على أنّ العبادة أيضا مما لا تتم ولا تتيسر له إلا بمعونة منه تعالى وتوفيق.
فإن قيل : لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ أجيب : بأنّ عادة العرب التفنن في الكلام والعدول من أسلوب إلى آخر تحسينا للكلام وتنشيطا للسامع فيكون أكثر إسغاء للكلام فتعدل من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى التكلم وبالعكس فيهما فهذه أقسام أربعة ذكرها البيضاوي والتحقيق كما قاله بعض المتأخرين : أنها ستة لأنّ الملتفت إليه اثنان وكل منهما إمّا غيبة أو خطاب أو تكلم ، من ذلك قوله تعالى : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس ، ٢٢] الأصل بكم فهو التفات من الخطاب إلى الغيبة وقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ) [الروم ، ٤٨] الأصل فساقه فهو التفات من الغيبة إلى التكلم.
والاستعانة طلب معونة وهي : إمّا ضرورية أو غير ضرورية ، فالضرورية ما لا يتأتى الفعل دونه كاقتدار الفاعل وتصوّره وحصول آلة ومادّة يفعل بها فيها وعند استجماع ذلك يوصف الرجل بالاستطاعة ويصح أن يكلف بالفعل ، وغير الضرورية تحصيل ما يتيسر به الفعل ويسهل كالراحلة في السفر للقادر على المشي أو يقرّب الفاعل إلى الفعل ويحثه عليه وهذا القسم لا يتوقف عليه صحة التكليف غالبا وقد يتوقف كأكثر الواجبات المالية.
فإن قيل : لم أطلقت الاستعانة؟ أجيب : بأنها إنما أطلقت لأجل أنها تتناول المعونة في المهمات كلها أو في أداء العبادات واستحسن هذا الزمخشريّ قال : لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض.
تنبيه : الضمير المستكن في نعبد ونستعين للقارىء ومن معه من الحفظة وحاضري صلاة الجماعة أو له ولسائر الموحدين أدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم وخلط حاجته بحاجتهم لعل عبادته تقبل ببركة عبادتهم وحاجته يجاب إليها ببركة حاجتهم ولهذا شرعت الجماعة في الصلاة.
فإن قيل : لم قدم المفعول؟ أجيب : بأنّ تقديمه للتعظيم والاهتمام به والدلالة على الحصر ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما : معناه نعبدك ولا نعبد غيرك وتقديم ما هو مقدّم في الوجود والتنبيه على أنّ العابد ينبغي أن يكون نظره إلى المعبود أولا وبالذات ومنه إلى العبادة لا من حيث إنها عبادة صدرت عنه بل من حيث إنها نسبة شريفة إليه ووصلة بينه وبين الحق فإنّ العارف إنما يحق وصوله إذا استغرق في ملاحظة جناب القدس وغاب عما عداه حتى أنه لا يلاحظ نفسه ولا حالا من أحوالها إلا من حيث إنها ملاحظة له ومنتسبة إليه ولذلك فضل ما حكي عن حبيبه محمد صلىاللهعليهوسلم حين قال : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة ، ٤٠] على ما حكاه عن كليمه موسى صلىاللهعليهوسلم حيث قال : (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء ، ٦٢] لأنّ الأوّل قدّم ذكر الله تعالى على المعية والثاني بالعكس.