بالتأويل يقولون آمنا. الثاني : أن يكون يقولون حالا من الراسخون. أجيب : بأنّ الأوّل مدفوع بأنّ تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى إضمار أولى ، والثاني أنّ ذا الحال هو الذي تقدّم ذكره وهم الراسخون فوجب أن يكون قوله : آمنا به حالا من الراسخون لا من الله وذلك ترك للظاهر ، ورابعها : قوله تعالى : (كُلٌ) أي : من المحكم والمتشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله وبما لم يعرفوا تفصيله ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل لم يبق لهذا الكلام فائدة ، وخامسها : نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال : تفسير القرآن على أربعة أوجه : تفسير لا يسع أحدا جهله ، وتفسير تعرفه العرب بألسنتها ، وتفسير تعرفه العلماء ، وتفسير لا يعلمه إلا الله تعالى ، وسئل مالك بن أنس رضي الله تعالى عنهما عن قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه ، ٥] فقال : الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة.
فإن قيل : ما الفائدة في لفظ عند ، ولو قال كل من ربنا لحصل المقصود؟ أجيب : بأنّ الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد التأكيد.
فإن قيل : لم حذف المضاف إليه من كل؟ أجيب : بأنّ دلالته على المضاف إليه قوية فالأمن من اللبس بعد الحذف حاصل (وَما يَذَّكَّرُ) بإدغام التاء في الأصل في الذال أي : ما يتعظ بما في القرآن (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) أي : أصحاب العقول.
تنبيه : وجه اتصال هذه الآية وأوّلها (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) بما قبلها وأوّلها (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) أنه لما بين أنه قيوم وهو القائم بمصالح الخلق والمصالح قسمان : جسماني وروحاني ، فالجسماني أشرفها تعديل البنية على أحسن شكل وهو المراد بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) وأمّا الروحاني فأشرفها العلم وهو المراد بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ.)
ولما حكى سبحانه وتعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : آمنا به حكى أنهم يقولون : (رَبَّنا لا تُزِغْ) أي : لا تمل (قُلُوبَنا) عن طريق الحق إلى اتباع المتشابه بتأويل لا ترتضيه (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) وفقتنا لدينك والإيمان بالحكم والمتشابه. قال عليه الصلاة والسّلام : «قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أقامه ـ أي : القلب على الحق ـ وإن شاء أزاغه عنه» (١) رواه الشيخان وغيرهما ، وقيل : لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا وعلى هذا اقتصر الزمخشري ووجه بأنّ ما ذكر كناية أو مجاز إذ لا تحسن من الله الإزاغة ليشمل نفيها وهذا بناء على مذهبه من الاعتزال ، وأمّا مذهب أهل السنة فالزيغ والهداية خلق الله تعالى وكان صلىاللهعليهوسلم يقول : «اللهمّ يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك» (٢) وعن أبي موسى الأشعريّ رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «مثل القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرا وبطنا» (٣)(وَهَبْ لَنا) أي : اعطنا (مِنْ لَدُنْكَ) أي : من عندك (رَحْمَةً) أي : توفيقا وتثبيتا للذي نحن عليه من الإيمان والهدى أو مغفرة للذنوب (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) لكل سؤل وفيه دليل على أنّ الهدى والضلال من الله تعالى وأنه
__________________
(١) أخرجه مسلم في القدر حديث ٢٦٥٤ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٩٩.
(٢) أخرجه الترمذي حديث ٢١٤ ، ٣٥٢٢ ، ٣٥٨٧ ، وابن ماجه في المقدمة حديث ١٩٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٨٢.
(٣) أخرجه ابن ماجه في المقدمة حديث ٨٨.