فإن قيل : لم حبس لسانه عن كلام الناس؟ أجيب : بأنه إنما فعل به ذلك لتخلص المدّة المذكورة لذكر الله تعالى لا يشغل لسانه بغيره توفرا منه على قضاء حق تلك النعمة الجسيمة وشكرها التي طلب الآية من أجله كأنه لما طلب الآية من أجل الشكر قيل له : آيتك أن يحبس لسانك إلا عن الشكر ، وأحسن الجواب وأوقعه ما كان مشتقا من السؤال ومنتزعا منه وقال قتادة : أمسك لسانه عن الكلام عقوبة له لسؤاله الآية بعد مشافهة الملائكة إياه فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام.
(وَ) اذكر (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) أي : جبريل قال لها شفاها : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) أي : اختارك بأن تقبلك من أمّك ولم يقبل قبلك أنثى وفرغك للعبادة وأغناك برزق الجنة عن الكسب وتكليمه لها شفاها كرامة لها. وقيل : كان معجزة لزكريا ، وقيل : كان إرهاصا أي : تأسيسا لنبوّة عيسى صلىاللهعليهوسلم بطريق الخوارق قبل البعثة كإظلال الغمام لنبينا صلىاللهعليهوسلم قبل البعثة بطريق الشام وإنما حمل على هذا التأويل ؛ لأنها ليست بنبية على الأصح بل حكى البيضاويّ الإجماع على أنه تعالى لم ينبىء امرأة لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) [الأنبياء ، ٧] لكن نوزع في دعوى الإجماع ؛ لأنّ الخلاف ثابت في نبوّة نسوة خصوصا مريم إذ القول بنبوّتها مشهور (وَطَهَّرَكِ) أي : مسيس الرجال ومما يستقذر من النساء (وَاصْطَفاكِ) ثانيا (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) بهدايتك وإرسال الملائكة إليك وتخصيصك بالكرامات السنية كالولد من غير أب ولم يكن لأحد من النساء.
فائدة : أفضل نساء العالمين مريم كما في الآية إذ قيل بنبوّتها ثم فاطمة بنت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم خديجة أمّها ثم عائشة ثم آسية امرأة فرعون.
فإن قيل : روى الطبرانيّ : «خير نساء العالمين مريم بنت عمران ثم خديجة بنت خويلد ثم فاطمة بنت محمد صلىاللهعليهوسلم ثم آسية امرأة فرعون» (١) أجيب : بأنّ خديجة إنما فضلت فاطمة باعتبار الأمومة لا باعتبار السيادة.
(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ) أي : أطيعيه (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) أي : وصلي مع المصلين في الجماعة أو وانظمي نفسك في جملة المصلين وكوني معهم في عدادهم ولا تكوني في عداد غيرهم.
فإن قيل : لم قدم السجود على الركوع؟ أجيب : باحتمال أنه كان كذلك في تلك الشريعة وقيل : بل كان السجود قبل الركوع في الشرائع كلها أو للتنبيه على أنّ الواو لا تقتضي الترتيب.
(ذلِكَ) أي : ما قصصناه عليك يا محمد من حديث زكريا ويحيى ومريم وعيسى (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) أي : من الغيوب التي لم تعرفها إلا بالوحي (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أي : عندهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) في الماء أي : سهامهم التي طرحوها فيه وعليها علامة على القرعة وقيل : هي الأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة اختاروها للقرعة تبركا بها ليعلموا (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي : يحضنها ويربيها ، فأيّ متعلق بمحذوف كما علم من التقدير (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في كفالتها فتعرف ذلك فتخبر به وإنما عرفته من جهة الوحي.
__________________
(١) أخرجه الهيثمي في موارد الظمآن ٢٢٢٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٤٤٠٤ ، والطبراني في المعجم الكبير ٢٢ / ٤٠٢.