لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١))
(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) أي : صغيرا قبل أوان الكلام كما ذكر في سورة مريم (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) [مريم ، ٣٠] الآية. وحكي عن مجاهد قال : قالت مريم : كنت إذا خلوت أنا وعيسى حدّثني وحدّثته فإذا شغلني عنه إنسان سبح في بطني وأنا أسمع. والمهد ما يمهد للصبيّ من مضجعه وقوله تعالى : (وَكَهْلاً) عطف على في المهد أي : ويكلم الناس في هاتين الحالتين كلام الأنبياء من غير تفاوت بين حال الطفولية وحال الكهولية التي يستحكم فيها العقل ويستنبأ فيها الأنبياء ، وقد رفع بعد كهولته ، وقيل : إنه رفع شابا وعلى هذا المراد كهلا بعد نزوله وذكر تعالى أحواله المختلفة المتنافية إرشادا إلى أنه بمعزل عن الألوهية.
فإن قيل : فما فائدة البشارة بكلامه كهلا والناس في ذلك سواء؟ أجيب : بأنه بشرها بأنه يبقى إلى أن يتكهل وبعدم التفاوت بين الحالين كما مرّ وقوله تعالى : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي : من عباد الله الصالحين حال من كلمة أو من ضميرها الذي في يكلم.
فإن قيل : لم ختم الصفات المذكورة بقوله : (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) بعد كونه وجيها في الدنيا وفسرت بالنبوّة ولا شك أنّ النبوّة أرفع من منصب الصلاح بل كل واحدة من الصفات المذكورة أشرف من كونه صالحا؟ أجيب : بأنه لا يكون كذلك إلا ويكون في جميع الأفعال والتروك مواظبا على المنهج الأصلح وذلك يتناول جميع المقامات في الدين والدنيا في أفعال القلوب وفي أفعال الجوارح ولهذا قال نبيّ الله سليمان بن داود عليهما الصلاة والسّلام بعد النبوّة (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل ، ١٩] فلما عدّد صفات عيسى عليه الصلاة والسّلام أردفها بهذا الوصف الدال على أرفع الدرجات.
(قالَتْ رَبِ) أي : يا سيدي فقولها لله عزوجل وقيل : قالته لجبريل قاله البغويّ وقال الزمخشري : ومن بدع التفاسير أن قولها رب نداء لجبريل بمعنى يا سيدي (أَنَّى) أي : كيف (يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) أي : ولم يصبني رجل بتزوّج ولا غيره ، قالت ذلك تعجبا إذ لم تكن جرت العادة بأن يولد مولود بلا أب أو استفهاما عن أن يكون بتزوّج أو بغيره (قالَ) الأمر (كَذلِكِ) من خلق ولد منك بلا أب (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) القائل جبريل أو الله وجبريل حكى لها وقوله تعالى (إِذا قَضى أَمْراً) أي : أراد كون شيء (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ) صر وقرأ (فَيَكُونُ) ابن عامر بفتح النون ، والباقون بضمها أي : فهو يكون ؛ لأنه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجا بأسباب وموادّ يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك ، فنفخ جبريل في جيب درعها فحملت وكان من أمرها ما ذكر في سورة مريم وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليه هناك.
وقوله تعالى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ) أي : الكتابة (وَالْحِكْمَةَ) أي : العلم المقترن بالعمل (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) كلام مستأنف ذكر تطييبا لقلبها وإزاحة لما همها من خوف اللوم حين علمت أنها تلد من غير زوج وقيل : المراد بالكتاب جنس الكتب المنزلة وخص الكتابان لفضلهما ، وقرأ نافع وعاصم بالياء والباقون بالنون.