يظهرون الفقر والمسكنة. وفسر أكثر المفسرين المسكنة بالجزية وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه قال البيضاوي : واليهود في غالب الأمر فقراء مساكين اه. (ذلِكَ) أي : ضرب الذلة والمسكنة والبوء بالغضب كائن (بِأَنَّهُمْ) أي : بسبب أنهم (كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ) أي : الكفر والقتل (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) أي : كائن بسبب عصيانهم واعتدائهم حدود الله تعالى فإنّ الإصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر والإصرار على الكبائر يفضي إلى الكفر والعياذ بالله تعالى.
(لَيْسُوا) أي : أهل الكتاب (سَواءً) أي : مستوين ، وقوله تعالى : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي : مستقيمة ثابتة على الحق استئناف لبيان نفي الاستواء وهم الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لما أسلم عبد الله بن سلام قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولو لا ذلك ما تركوا دين آبائهم ، فأنزل الله هذه الآية (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) أي : يقرؤون كتاب الله (آناءَ اللَّيْلِ) أي : في ساعاته وقوله تعالى : (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) حال أي : يصلون ؛ لأنّ التلاوة لا تكون في السجود ، واختلفوا في معناها فقال بعضهم : هي قيام الليل. وقال ابن مسعود : هي صلاة العتمة ؛ لأنّ أهل الكتاب لا يصلونها لما روي : «أنه عليه الصلاة والسّلام أخرها ثم خرج إلى المسجد ، فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : أما إنه ـ أي : الشأن ـ ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى هذه الساعة غيركم» (١) رواه الإمام أحمد والنسائيّ وغيرهما وقوله : غيركم بالنصب خبر ليس ومن أهل الأديان حال من أحد قاله التفتازاني.
ثم وصف الله تعالى تلك الأمة القائمة بصفات أخر فقال : (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ) أي : الموصوفون بما ذكر (مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : ممن صلحت أحوالهم عند الله واستحقوا رضاه وثناه أي : والأمة الأخرى غير قائمة بل منحرفون عن الحق غير متعبدين بالليل مشركون بالله ملحدون في صفاته واصفون لليوم الآخر بغير صفته متباطئون عن الخيرات فترك هذه اكتفاء بذكر أحد الفريقين.
(وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي : تعدموا ثوابه بل تجازون عليه ، وقرأ حفص وحمزة والكسائيّ بالياء فيهما أي : الأمة القائمة والباقون بالتاء على الخطاب أي : أيها الأمة القائمة وقوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) بشارة لهم وإشعار بأن التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأنّ الفائز عند الله هو أهل التقوى.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ) أي : تدفع (عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) أي : من عذابه (شَيْئاً) وخص الأموال والأولاد بالذكر لأنّ الإنسان يدفع عن نفسه تارة بفداء المال وتارة بالاستعانة بالأولاد (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) أي : ملازموها (هُمْ فِيها خالِدُونَ مَثَلُ) أي : صفة.
(ما يُنْفِقُونَ) أي : الكفار (فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) في عداوة النبيّ صلىاللهعليهوسلم ونحوها (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) قال أكثر المفسرين : فيها برد شديد وحكي عن ابن عباس أنها السموم الحارّة التي تقتل وقيل : فيها صرّ أي : صوت (أَصابَتْ حَرْثَ) أي : زرع (قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٣٩٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ٦٥ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ٨٧ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ٣١٢.