(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أي : ابقوا إلى الممات بغيظكم فلن تروا ما يسركم وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : بما في القلوب ومنه ما يضمره هؤلاء يحتمل أن يكون من المقول أي : وقل لهم : إنّ الله عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل غيظا وأن يكون خارجا عنه بمعنى قل لهم ذلك ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم.
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ) أي : تصبكم أيها المؤمنون (حَسَنَةٌ) أي : نعمة كنصر وغنيمة وخصب في معاشكم وتتابع الناس في دينكم (تَسُؤْهُمْ) أي : تحزنهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ) أي : إساءة كهزيمة وجدب واختلاف يكون بينكم (يَفْرَحُوا بِها) وجملة الشرط متصلة بالشرط ، قيل : وما بينهما اعتراض والمعنى إنهم متناهون في عداوتكم فلم توالونهم فاجتنبوهم.
فإن قيل : كيف وصفت الحسنة بالمس والسيئة بالإصابة؟ أجيب : بأنّ المس مستعار بمعنى الإصابة فكان المعنى واحد ألا ترى إلى قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء ، ٧٩] (وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم (وَتَتَّقُوا) الله في موالاتهم وغيرها (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) بفضل الله وحفظه الموعود للصابرين والمتقين وهذا تعظيم من الله تعالى وإرشادا إلى أنه يستعان على كيد العدوّ بالصبر والتقوى ، وقد قال الحكماء : إذا أردت أن تكيد من يحسدك فازدد فضلا في نفسك ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بكسر الضاد وسكون الراء من ضاره يضيره ، والباقون بضم الضاد وضم الراء مشدّدة للاتباع كضمة مدّ وهي ضمة الأمر المضاعف وكل مجزوم من المضاعف المضموم العين ، فإنه يجوز ضمه للاتباع كما يجوز فتحه للخفة وكسر لأجل تحريك الساكن (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي : عالم فيجازيكم به.
(وَ) اذكر يا محمد (إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) أي : من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها (تُبَوِّئُ) أي : تنزل (الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ) أي : مراكز يقفون فيها (لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأحوالكم.
روي «أنّ المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء فاستشار رسول الله صلىاللهعليهوسلم أصحابه ودعا عبد الله ابن أبيّ ابن سلول ولم يدعه قط قبلها واستشاره ، فقال عبد الله وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا ، ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فكيف وأنت فينا فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ـ أي : بكسر الباء وهو مكان لا ماء فيه ولا طعام ـ وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين فأعجب رسول الله صلىاللهعليهوسلم هذا الرأي وقال بعض أصحابه : اخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم وضعفنا.
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إني رأيت في منامي بقرا مذبحة حولي فأوّلتها خيرا ، ورأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم» فقال رجال من المسلمين قد فاتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد : اخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به حتى دخل ، فلبس لأمته أي : درعه فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا : بئس ما صنعنا نشير على رسول الله صلىاللهعليهوسلم والوحي يأتيه وقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت فقال : «لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة وأصبح بالشعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال سنة ثلاث من الهجرة ونزل في عدوة الوادي