رسول الله صلىاللهعليهوسلم انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس ، فأوّل من عرف رسول الله صلىاللهعليهوسلم كعب بن مالك وقال : عرفت عينيه تحت المغفر تزهران فناديت بأعلى صوتي : يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فأشار إليّ أن أمسك» فانحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الفرار ، فقالوا : يا نبيّ الله فديناك بآبائنا وأمّهاتنا أتانا الخبر بأنك قد قتلت فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فإن قيل : إنه تعالى بيّن في آيات كثيرة أنه عليه الصلاة والسّلام لا يقتل فقال : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر ، ٣٠] وقال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة ، ٦٧] وقال : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) [التوبة ، ٣٣] وإذا علم أنه لا يقتل فلم قال أو قتل؟ أجيب : بأن هذا ورد على سبيل الإلزام ، فإن موسى عليه الصلاة والسّلام مات ولم ترجع أمّته عن دينه ، والنصارى زعموا أن عيسى عليه الصلاة والسّلام قتل ولم يرجعوا عن دينه فكذا ههنا (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) بارتداده وإنما يضرّ نفسه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه.
(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بقضائه ومشيئته أو بإذنه لملك الموت في قبضه روحه وقوله تعالى : (كِتاباً) مصدر أي : كتب الله ذلك (مُؤَجَّلاً) أي : مؤقتا لا يتقدّم ولا يتأخر فلم انهزمتم والهزيمة لا تدفع الموت والثبات لا يقطع الحياة.
ونزل في الذين تركوا المركز يوم أحد طلبا للغنيمة (وَمَنْ يُرِدْ) أي : بعمله (ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) ما نشاء مما قدّرناه له كما قال تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) [الإسراء : ١٨] وفي الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا (وَمَنْ يُرِدْ) أي : بعمله (ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) أي : من ثوابها (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) أي : الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد.
روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته طلب الدنيا جعل الله الفقر بين عينيه وشتت عليه أمره ولا يأتيه منها إلا ما كتب له» (١) وقال صلىاللهعليهوسلم : «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» (٢).
وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ) أصله أي : دخلت الكاف عليها فصارت مركبة من كاف التشبيه ومن أي : وحدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير المفهوم من كم الخبرية ومثلها في التركيب وإفهام التكثير كذا في قولهم : عندي كذا كذا درهما وأصله كاف التشبيه ، وذا الذي هو اسم إشارة فلما ركبا حدث فيهما معنى التكثير فكم الخبرية وكأين وكذا كلها بمعنى واحد ، والنون تنوين في المعنى أثبت في الخط على غير قياس. قال البغوي : لم يقع للتنوين صورة في الخط إلا في هذا الحرف خاصة وقرأ ابن كثير بألف بعد الكاف بعدها همزة مكسورة ، والباقون بهمزة بعد الكاف مفتوحة
__________________
(١) أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ٤ / ١٢٢ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ١٠ / ٢٤٧ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٦ / ٣٠٧.
(٢) أخرجه البخاري في بدء الوحي حديث ١ ، وأبو داود في الطلاق حديث ٢٢٠١.