يَدْعُوكُمْ) أي : يقول : إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكرّ فله الجنة (فِي أُخْراكُمْ) أي : من ورائكم (فَأَثابَكُمْ) أي : جازاكم (غَمًّا) بالهزيمة (بِغَمٍ) أي : بسبب غمكم الرسول بالمخالفة. وقيل : الباء بمعنى على أي : مضاعفا على غمّ فوت الغنيمة.
والغموم كانت هناك كثيرة أحدها : غمهم بما نالهم من العدوّ في الأنفس والأموال وثانيها : غمهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها وثالثها : غمهم بما وصل إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم ورابعها : غمهم بسبب التوبة التي صارت واجبة عليهم ؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بترك الهزيمة والعود إلى المحاربة بعد الانهزام وذلك من أشق الأشياء ؛ لأنّ الإنسان بعد انهزامه يضعف قلبه ويجبن فإذا أمر بالمعاودة فإن فعل خاف القتل ، وإن لم يفعل خاف عقاب الآخرة وخامسها : غمهم حين سمعوا أن محمدا قد قتل وسادسها : غمهم حين أشرف عليهم خالد بن الوليد بخيل المشركين وسابعها : غمهم حين أشرف عليهم أبو سفيان.
وذلك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة ، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه وأراد أن يرميه فقال : «أنا رسول الله» ففرحوا حين وجدوه وفرح صلىاللهعليهوسلم حين رأى من يمتنع به فأقبلوا على المشركين يذكرون الفتح وما فاتهم منه ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا ، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب ، فلما نظر المسلمون إليهم همهم ذلك وظنوا أنهم يميلون عليهم ، فيقتلونهم فأنساهم هذا ما نالهم ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ليس لهم أن يعلونا اللهمّ إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض» ثم بدت أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم ، وإذا عرفت ذلك فلا يضر اختلاف المفسرين ، فإن بعضهم فسر هذين الغمين بغمين من هذه وبعضهم بخلافه وقال القفال : وعندي أن الله تعالى ما أراد بقوله غما بغمّ اثنين وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها أي : إن الله تعالى عاقبكم بغموم كثيرة مثل قتل إخوانكم وأقاربكم ونزول المشركين من فوق الجبل عليكم بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم ، فكأنه تعالى قال : أثابكم هذه الغموم المتعاقبة ليصير ذلك زجرا لكم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله تعالى. والغمّ التغطية ومنه غمّ الهلال إذا لم ير وقوله تعالى (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) أي : من الغنيمة متعلق بعفا أو بأثابكم فلا زائدة (وَلا ما أَصابَكُمْ) أي : من القتل والهزيمة (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) أي : عالم بأعمالكم وبما قصدتم بها.
(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)