كانوا في الجاهلية ، وفي أوّل الإسلام إذا مات الرجل وله امرأة وللرجل عصبة وألقى ثوبه على امرأة الميت أو على خبائها صار أحق بها من نفسها ومن غيره ، ثم إن شاء تزوّجها بصداقها الأوّل وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت هي فيرثها ، فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها عصبة الميت ثوبه فهي أحق بنفسها ، وكانوا على هذا حتى توفي أبو القيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته ، فقام ابن له من غيرها فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ، ثم تركها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفدي نفسها منه ، فأتت النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقالت : يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه ، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي ، فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقعدي في بيتك حتى يأتي أمر الله» (١) فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقرأ حمزة والكسائي بضم الكاف ، والباقون بفتحها قال الكسائي : وهما لغتان ، وقال الفرّاء : الكره بالفتح ما أكره عليه ، وبالضم المشقة ، وقوله تعالى : (وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) عطف على (أن ترثوا) أي : لا تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم بإمساكهنّ ولا رغبة لكم فيهنّ ضرارا لتذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر ، وقيل : هذا خطاب لأولياء الميت ، والصحيح كما قال البغوي : إنه خطاب للأزواج ، قال ابن عباس : هذا في الرجل يكون له المرأة وهو كاره صحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وتردّ إليه ما ساق إليها من المهر فنهى الله تعالى عن ذلك.
قال الزمخشريّ : والعضل الحبس والضيق ومنه عضلت المرأة بولدها إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) كالزنا والنشوز وسوء العشرة ، فحينئذ يحل لكم إضرارهنّ ليفتدين منكم قال عطاء : كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ ذلك بالحدود ، وقرأ ابن كثير وشعبة بفتح الياء المثناة تحت والباقون بالكسر وقوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) قال الحسن : رجع إلى أوّل الكلام يعني وآتوا النساء صدقاتهنّ نحلة وعاشروهنّ بالمعروف وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول وقيل : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) فاصبروا ولا تفارقوهنّ (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) أي : فربما كرهت النفس ما هو أصلح في الدين وأحمد وأدنى إلى الخير وأحبت ما هو بضدّ ذلك وليكن نظركم ما هو أصلح للدين وأدنى إلى الخير فلعل أن يرزقكم الله تعالى منهنّ ولدا صالحا أو يعطفكم الله عليهنّ وقد بينت الآية جواز إمساك المرأة مع الكراهة لها ونبهت على معنيين :
أحدهما : أنّ الإنسان لا يعلم وجوه الصلاح :
والثاني : أنّ الإنسان لا يكاد يجد محبوبا ليس فيه ما يكره فليصبر على ما يكره لما يحب وأنشدوا في هذا المعنى (٢) :
ومن لم يغمض عينه عن صديقه |
|
وعن بعض ما فيه يمت وهو عائب |
ومن يتتبع جاهدا كل عثرة |
|
يجدها ولم يسلم له الدهر صاحب |
__________________
(١) حديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.
(٢) البيت من الطويل ، والبيت الأول بلا نسبة في أساس البلاغة (غمص).